مقدمة
بعد قرار الهيئة العليا لمسيرات العودة، بتاريخ 26/12/2019، بوقف المسيرات واقتصارها على المناسبات الوطنية؛ تعود المواجهات على الحدود الشرقية الفاصلة بين قطاع غزة والسياج الحدودي، لتدخل الخدمة مجددًا ضمن خيارات الفصائل لتغيير المعادلة والضغط بشكل أكبر على الاحتلال؛ للتخفيف من الإجراءات الخانقة التي يفرضها على معابر قطاع غزة وحدوده.
عادت فعاليات المقاومة الشعبية على الحدود، من خلال تنظيم مسيرة، بتاريخ 20/8/2021، في ذكرى إحراق المسجد الأقصى، تخللتها مواجهات مباشرة أسفرت عن إصابة العشرات من الفلسطينيين بالرصاص الحي والدخان، مما ينذر بتطور دراماتيكي في موقف الفصائل الذي ظل يتبنى خيار تدخل الوسطاء للتخفيف من الأزمة التي يعيشها الفلسطينيون في القطاع طوال الفترة الماضية.
ولتدلل الفصائل على تمسكها بقرارها، أعلنت عن استمرار تلك الفعاليات حتى كسر الحصار، وتلا ذلك إعلان فصائل العمل الوطني والإسلامي عن تنظيم مهرجان شعبي، يوم 25/8/2021، على أرض مخيم العودة ببلدة خزاعة شرق خانيونس.
عودة المواجهة الشعبية على الحدود بين الفرص والمخاطر
إن الناظر إلى قرار الفصائل في تبني خيار المقاومة الشعبية من خلال إعادة تنظيم المسيرات، يعلم تمامًا أن هذا القرار جاء نتاج فشل الوساطات غير المباشرة بين الفصائل وإسرائيل، خاصة بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير على قطاع غزة في أيار/مايو 2021، الذي كان يستند بشكل أساسي إلى قيادة مصر والأمم المتحدة، وبرعاية أميركية، لمجموعة تفاهمات تساهم في تخفيف الحصار عن القطاع مقابل ضمان الهدوء ووقف إطلاق النار والبلالين الحارقة، وكافة أشكال المقاومة ضد إسرائيل.
فبعد دخول وقف إطلاق النار الأخير حيز التنفيذ لم يصمد طويلًا، إذ تجدد القصف الإسرائيلي على قطاع غزة بشكل متقطع بداعي إطلاق البلالين والمناطيد الحارقة على بلدات الغلاف، ما يعطي مؤشرات قوية على أن وقف إطلاق النار لم يكن مؤسسًا على بنود حل واضحة ضمن جدول زمني محدد.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لا تزال إسرائيل تفرض حصارًا خانقًا على القطاع، أدى إلى انهيار واسع في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وتسبب في رفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة.
لم تنجح الجهود المبذولة من الوسطاء بالتوصل إلى أي مظهر يرضي الفصائل في قطاع غزة، ما جعلها تفكر في تسخين الجبهة مرة أخرى بحثًا عن فرص لتغيير المعادل،ة مدركة أن إسرائيل لن تعطي الفلسطينيين أي فرصة لالتقاط الأنفاس ما لم تكن تحت ضغط جبهتها الداخلية، وكذلك أحزاب المعارضة الإسرائيلية.
تسعى الفصائل الفلسطينية من خلال إعادة تفعيل خيار المواجهات الشعبية الشاملة في نقاط عديدة على حدود القطاع إلى إيصال رسالة إلى إسرائيل مفادها أن بقاء الحال على ما هو عليه أصبح أمرًا مرفوضًا، وهذا ما أعلنته الفصائل، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الحاكم الفعلي لقطاع غزة، أكثر من مرة، قبل اتخاذ القرار بإعادة المسيرات إلى أرض مخيمات العودة بوقت قصير.
يبدو أن هذا القرار أزعج جمهورية مصر العربية، الجارة، والوسيط الأساسي في كافة اتفاقات وقف إطلاق النار ، واعتبرته استعجالًا من الفصائل، ما حذاها إلى إعلان إغلاق معبر رفح، بتاريخ 22/8/2021، إلى إشعار آخر، من دون إبداء الأسباب، كرسالة احتجاج على قرار الفصائل، لاسيما أنها ترى بأن الفرصة ما زالت متاحة لإحراز تقدم في الملفات التي يتم نقاشها في القاهرة، كملف صفقة تبادل الأسرى التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، وكذلك تخفيف الحصار من خلال إدخال بعض المساعدات عبر المعابر التي تتحكم بها إسرائيل، وكذلك عبر معبر رفح.
في المقابل، رأت "حماس" أن هذا التقدم غير كافٍ، إذ إن النقاشات تحول دون إدخال المنحة القطرية إلى القطاع، وكذلك توقف عجلة إعادة الإعمار، وترى أنه لا بأس بقليل من الضغط على الاحتلال الإسرائيلي في سبيل تسريع نتائج الحوارات الطويلة.
لا تختلف الظروف والمستجدات السياسية الحالية كثيرًا عن تلك التي كانت سائدة حين الإعلان عن تنظيم مسيرات العودة الكبرى في نهاية آذار/مارس 2018، إذ كانت أداة ضغط فاعلة على الجانب الإسرائيلي والوسطاء في ذلك الحين.
وترى "حماس" ومعها الفصائل في قطاع غزة بأن التدرّج في توسيع المواجهات سيكون في حسابات كافة الأطراف، لذلك فإنها أعلنت بشكل غير مباشر عن عودة المواجهات الشعبية من خلال مناسبة وطنية كتلك التي بدأت فيها في العام 2018، حين اختارت يوم الأرض ليكون بداية الفعاليات، لذا فإنها بهذه الفعالية الافتتاحية تعطي مساحة زمنية ليست بالطويلة لتحرك الوسطاء بشكل سريع لتدارك الموقف، قبل أن تصبح عودة فعاليات المواجهة الشعبية أمرًا محتومًا ضمن برنامج دوري واضح.
ولكن، وبالنظر إلى الواقع الجديد الذي استطاعت الفصائل فرضه في التجربة السابقة من خلال مسيرات العودة الكبرى، وشعورها بأنها تملك زمام أمور التهدئة والتوتر، إلا أن المخاطر في هذه المرة أعلى، خاصة مع وجود حكومة ائتلاف إسرائيلية هشة إلى حد ما، تسعى بكافة الوسائل إلى إظهار قوتها واختلافها عن سابقاتها فيما يعرف بتثبيت قوة الردع، وعدم السماح للفصائل في غزة بالتحكم في المعادلة السياسية والميدانية القائمة، ما يرفع من احتمالات دفع الجانب الفلسطيني لفاتورة دم، ومعاناة أكبر، مع كل خطوة تصعيد تزعج الحاكم الإسرائيلي، وتجعله في موقف سيئ أمام الجمهور والمعارضة.
الرسالة الفلسطينية باتخاذ القرار غير موجهة لإسرائيل فقط، بل إلى الوسطاء الذين تعهدوا بخوض مباحثات جدية، والضغط على إسرائيل للتخفيف من إجراءاتها بعد العدوان الأخير، وفي مقدمتها الإدارة الأميركية الجديدة، التي كان لها موقف معلن من ضرورة إيجاد معادلة تفضي إلى تحسين الأوضاع المعيشية وإعادة الإعمار في قطاع غزة، ولكن دون تعزيز قدرات "حماس" والمقاومة، أو استفادة الحركة من المساعدات. وبهذا، فإن الفصائل تضع الجميع أمام خيار إعادة انفجار الأوضاع إن لم يتم الاستجابة، ولو جزئيًا، لما يطالب به الفلسطينيون منذ سنوات.
في خضم كل ما يحدث، هناك غياب واضح للسلطة الوطنية، لا سيما حكومة محمد اشتية، التي تنتهج الصمت، منذ بداية عملها، في المواقف المتعلقة بقضايا قطاع غزة، واقتصار تدخلاتها على نطاقات ضيقة، كدفع جزء من رواتب منتسبي السلطة المدنيين والعسكريين، وإشرافها على عمل دائرة الشؤون المدنية. أما بخصوص ملفات الإعمار والتهدئة فلا يوجد لها أي تدخلات تذكر، بل إنها في كل مناسبة تتاح تذكر أن الأموال التي قد يدفعها المانحون يجب أن تصل إلى خزينة السلطة، وهي ستقوم بصرفها على الإعمار وفق ما ترى.
إستراتيجيات التعامل مع تثبيت فكرة المواجهة الشعبية على الحدود
لدى الفصائل الفلسطينية تجربة سابقة في خوض المواجهات الشعبية على الحدود خلال مسيرات العودة التي استمرت 21 شهرًا، وكان لإعادة تبني هذا النوع من المقاومة الشعبية مرة أخرى محل شك لدى البعض، وربما يعود ذلك إلى ما تسببت به المسيرات من خسائر بشرية كبيرة، وعدم إنتاج تلك المرحلة لحلول طويلة الأمد.
إن شكل المواجهات الشعبية على حدود قطاع غزة يختلف كليًا عن تلك الذي يجري على نقاط التماس في الضفة الغربية في مستوى العنف المفرط الذي تتعامل به إسرائيل مع المتظاهرين، رغم ثبوت تحلي الفلسطينيين بالسلمية على مدار شهور مسيرات العودة، مما جعل مظاهر المواجهات في القطاع تحمل طابعًا استثنائيًا تخشى إسرائيل من امتداده أو انتقاله إلى مناطق أكثر انخراطًا معها كالضفة والداخل المحتل.
وهنا تجدر إثارة تساؤل حول حقيقة تبني الفصائل في قطاع غزة لخيار المواجهة الشعبية كخيار إستراتيجي أم مرحلي؟
يبدو أن الفصائل تتخذ من المقاومة الشعبية أداة ضغط ضمن مجموعة الخيارات التي تلجأ إليها؛ لكي لا تذهب باتجاه الاصطدام العسكري المباشر والشامل، على اعتبار أن خيار المواجهات الشعبية على نقاط التماس أقل كلفة وأكثر محدودية، كون تنظيم تلك الفعاليات تتم على أرض الميدان بقرارها وتحت إشرافها، لذا فإنه وبعد التجربة السابقة مع مسيرات العودة وتوقفها بالشكل الذي تم، فإنه لا يمكن القول بشكل فاصل بأن الفصائل تتبنى هذا الخيار كخيار نضال إستراتيجي على الأقل في المرحلة الحالية، لأن تبنيه يوجب استمراريته وتركه ليتمتع بطابع عفوي وشعبي غير مرتب بحالة التنظيم التي تسبق تنفيذه في كل مرة في القطاع.
إن تعامل الفصائل مع المقاومة الشعبية بكافة أشكالها بمنطق الضرورات السياسية يهدد ترسيخ الفكرة لدى الجمهور الفلسطيني، لا سيما شريحة الشباب، ففي حين ينادي الجميع بضرورة تفعيل المقاومة الشعبية كخيار أول لمقاومة الاحتلال، يحدث أن يتم تبنيها وتغييبها وفقًا لظروف سياسية متأثرة بمستجدات الميدان، أو تدخلات خارجية تتم من الدول الوسيطة على أمور غير منصبة على أصل الصراع، مما سيخلق حالة من الشك غير محمودة العواقب في المستقبل حول فكرة النضال الشعبي.
احتمالات مستقبلية
يشير اتخاذ الفصائل لهذا القرار إلى أنها وصلت إلى طريق مسدود حتى اللحظة على الأقل، في المفاوضات غير المباشرة التي تخوضها مع الاحتلال الإسرائيلي بوساطة مصرية، لتحسين الأوضاع المعيشية في قطاع غزة، وبذلك فإن المستقبل قد يحمل ثلاثة تقديرات في هذا السياق، وهي:
أولًا: استمرار وتصاعد الفعاليات بوتيرة أعلى في محاولة من الفصائل لرفع مستوى الضغط على الجانب الإسرائيلي لتحسين الأوضاع في القطاع غزة، ورفع السقف عاليًا، وبقاؤه في حدود إعادة الأوضاع لما كانت عليه قبل 10 أيار/مايو 2021، والسماح للمانحين بإعمار ما دمرته إسرائيل خلال العدوان الأخير على القطاع.
وفي هذا التقدير استفادة من التجارب السابقة بواقعية المطالب، وكذلك حرص الفصائل على إبقاء العلاقة جيدة مع مصر، والمحافظة على استقرار الحالة لعمل معبر رفح الذي دخل هذه المرة ضمن معادلة الضغط على "حماس" بإغلاقه حتى إشعار آخر.
كما تستطيع مصر، وفق هذا التقدير، زيادة الضغط على الجانب الإسرائيلي مع وجود جهود قطرية وتركية موازية، تلعب فيهما الدولتان من خلالها دور الوسيط الخفي خلف جهود مصر والأمم المتحدة؛ لتحسين الأوضاع في القطاع، والإسراع نحو تنفيذ هذا الخيار حال تصاعدت وتيرة الأحداث، لأن عدم السعي الجدي إليه قد يجبر الجميع على خيارات أصعب لا تريدها فصائل المقاومة ولا إسرائيل بعد صيف صعب تكبد خلاله الطرفان خسائر بشرية واقتصادية كبيرة بعد المواجهة العسكرية الأخيرة.
ربما أرادت الفصائل تأكيدها على المضي قدمًا بالعودة إلى المواجهات الشعبية من خلال إقامة المهرجان الشعبي، يوم 25/8/2021، وإعلان محمد الهندي، نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، عن قرار الفصائل باستمرار الفعاليات الشعبية، وإبلاغ يحيى السنوار، قائد "حماس" في قطاع غزة مصر بذلك. وهذه الفعالية أيضًا لم تمر هادئة، ولكن حدة المواجهات فيها كانت أقل من سابقتها، فقد أصيب خلال المواجهات 14 مواطنًا.
إن التقارب الزمني في تنفيذ الفعاليات والتصريحات الصادرة عن القيادة السياسية العليا للفصائل، يؤشر على إصرار الفصائل على ترك الكلمة مرة أخرى للميدان ليحدد شكل المرحلة القادمة.
ثانيًا: وقف جميع الفعاليات في إطار ترك مساحة زمنية جديدة للوسطاء للانخراط في مفاوضات جديدة مع إسرائيل من أجل إيجاد حلول، مع ضرورة تهدئة الوضع على الميدان. وقد بات هذا الخيار ليس مقنعًا للفصائ، خاصة مع مماطلة الاحتلال المتكررة لتنفيذ التفاهمات، في حين إن الذهاب إليه سيفقد المقاومة الشعبية شيئًا من مضمونها حينما تخضع لرغبات الوسطاء، وكذلك سيعطي الاحتلال وقتًا إضافيًا للمراوغة والتلاعب بحق الفلسطينيين في العيش بحياة كريمة.
ثالثًا: تطور المواجهات الشعبية وتحولها إلى مواجهة عسكرية شاملة. وهذا تقدير يخضع لمحددات عدة، كانفجار الأوضاع ميدانيًا، وحصول أمر غير متوقع يستوجب تحركًا عسكريًا غير محدود من أي من الجانبين.
وقد يكون هذا الخيار محكومًا بالظروف السياسية الداخلية في إسرائيل، خاصة في ظل حكومة ائتلافية مهددة بالانفكاك مع أي خطر يتهدد الجبهة الإسرائيلية، ومع وجود معارضة قوية يرأسها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إذ قد تدفع التوترات الميدانية الحكومة إلى اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية أخرى لقطاع غزة، لكي لا تتعرض للانتقاد وتتهم بالضعف، كما حصل مع حكومات سابقة، ولكي تثبت للناخب الإسرائيلي أنها قادرة على توفير الأمن لإسرائيل من دون تقديم تنازلات.
خاتمة
يبقى قرار الفصائل بإعادة تفعيل المواجهات الشعبية على الحدود مع قطاع غزة قرارًا يمكن استدراكه في الآونة الحالية، والرجوع إليه تكتيكيًا قبل الذهاب بعيدًا فيه والتوسع في فعالياته، ولكن من الضروري جدًا معرفة أن أي خطوة بعد المواجهات الأخيرة بعد إعلان الفصائل عودة مظاهر المقاومة الشعبية على الحدود يجب قراءتها جيدًا واستشراف ما بعدها، لأن من شأن ذلك تثبيت واقع وفرض معادلة جديدة في أحد أهم طرق نضال الشعوب في مقاومة مستعمريها.
لذاـ فإنه يجب على صانع القرار الفلسطيني موازنة المصالح والمكاسب المنشودة مع احترام مبادئ وأفكار النضال، لكي لا تكون المواجهات الحالية في القطاع محطة تاريخية يؤخذ عليها استغلال فكرة المقاومة الشعبية على نحو مصالحي يؤثر على إيمان الأفراد مستقبلًا بها، وأيضًا يراعي دعم الشعوب الصديقة لتلك الفكرة، لا سيما أن للمقاومة الشعبية الفلسطينية تاريخ حافل في مقاومة جدار الفصل العنصري والبؤر والكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، وتلقى هذه الفكرة رواجًا وقبولًا ودعمًا من حكومات وناشطين.
[email protected]