"أهديك رسمي هذا رمزاً لصداقتنا والوداد، ولتبقى ذكرى حية لعهد الحياة المدرسية، تلك الحياة اليانعة العذبة التي كانت ترفل بأثواب العز والهناء".
(صديقك فضل زريق 22/6/59)
هذا ما دوّنه والدي بخطّه الجميل على ظهر صورته الشمسيّة الصّغيرة حين قدّمها لصديقه الغالي جورج قنازع ذات يوم صيقيّ نصراوي أعلن نهاية المرحلة حين وقف طلاب الفوج السابع في المدرسة البلديّة في الناصرة على أبواب الوداع بعد سنوات أربع قضوها معاً فكوّنت بينهم صداقات صادقة متينة تجاوزت مرحلة الدراسة لتظلّ علاقات عائلية قريبة أحياناً أو بعيدة بقدر ما تسمح الظروف، أواصر الأخوة التي لم تنفصم أبداً.
من دواعي الدهشة أن ذكرى الأربعين لحياة والدي أقيمت بتاريخ 22/6/2019 أي بعد 60 عاماً بالتمام والكمال من يوم مدوّنة أبي الصغيرة العميقة.
التقى فضل وجورج لقاء الغرباء ذات صباح خريفي أوائل أيلول 1955 مع بداية رحلة الفوج السابع في ثانوية الناصرة البلدية ،حيث جمعتهما غرف المدرسة ومعلموها، الرحلات، الزيارات بيتيّة واللقاءات الأخوية المتكررة ، اضافة للوجع التاريخي القومي الذي أثقل أكتاف كليهماٌ بحجم وشكل مختلف، ليفترقا ذات يوم صيفيّ نهاية حزيران 1959 بودّ ومحبّة الأقرباء فالانطلاق نحو عالم مليء بالتّحدّيات لم يدرك الخريجون اليافعون حجمها الحقيقي بعد، فالحديث عن العقد الأول بعد النّكبة وقيام الدولة.
لطالما تردّد اسم جورج قنازع في بيتنا، أسمعه منذ كنت طفلة تحدث عنه والدي بكثير من المودّة والاحترام. كان الاسم غريباً علي، هو ليس من أسماء عائلات قريتنا وأبي يقول إنّه زميله في الثانويّة، فكيف ذلك ؟
في العقد الأول من قيام الدولة كانت المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة هي الوحيدة في المنطقة، توجّه خريجو المدارس الابتدائية إليها خريجو الابتدائيات من الجش في أقصى الشمال إلى الفريديس، مصمص، عارة، أم الفحم، صندلة، المقيبلة في الجنوب، من كفر مندا، سخنين ومن عيلبون قد جاءها فضل ابن نعيم غنطوس زريق الذي قضى شهيداً في مجزرة عيلبون 30 تشرين أول 1948.
كنّا صغاراًّ لم ندرك أبعاد الأمور وتداعياتها، كنّا صغاراً لم نعي عظمة أن يُقبل ابن عيلبون في ثانويّة الناصرة، يلتحق فيها للتعليم ويتخرّج متفوقا في الدراسة كما في الأخلاقيات والسّلوك حائزاً على احترام ومحبّة أترابه لا سيّما أبناء المدينة منهم، شاب قروي لوزيّ العينين يبشّر اخضرارهما بدماثة وذكاء في اّن معاً.
كبرنا ونما وعينا رويداً رويداً، وبتنا نفهم – أو هكذا اعتقدنا- معاناة شعبنا الفلسطيني في الخمسينات حين كان المجتمع العربي في هذه البلاد يحاول استعادة قواه بعد النكبة التي كان لها أعمق الأثر على نسيجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد كان لقريتنا، عيلبون، نصيب عميق الأثر من هذه النكبة التي لن تمحى ذكراها من قلوب من عايشها وسمع بها من الأجيال القادمة. كان المجتمع العربي ما زال يرزح تحت نير الحكم العسكري، وكانت معظم قرى الجليل تحاول استعادة نظام تعليمي تهدَّم أو لم يكن موجوداً أصلاً.
لطالما تحدّث أبي عن تلك السنين كحلم جميل لم يقو الزّمن على دفنه، وفترة يعتزّ ويعتدّ بها وبما تركته في نفسه من ثقة ومحبّة، من صمود وتحدٍّ، لطالما تحدّث والدي عن صداقة بدأت على مقاعد الدراسة واستمرت لسنوات طويلة ولم تنقطع أبداً رغم عودة كل من الخريجين لمسقط رأسه لتتشعّب بهم الطرق من جديد. ولطالما ذكر اسم جورج قنازع مرفقاً بأحلى صفات الأخلاق والطيبة كما حب العلم وطموح نحو العُلى.
أقف هنا كما لم أقف على منبر من قبل، ليست رهبة الموقف بتأبين شخصية نعتز مفتخرين بها على مر الزمان فحسب، بل لأنني أقف نيابة عن والدي فضل زريق الذي غادرنا في 15 أيار قبل سنتين مؤكداً عمق التصاقه بنكبتنا... أقف هنا أنا التي ولدت بعد عشرين عاماً من الصبر والانتظار بالتمام والكمال في 15 أيار 1968 بكل ما يحمل هذا التاريخ من ألم الرسالة ووجع الماضي والحاضر. ومن دواعي الدهشة أن البروفيسور جورج قنازع الذي ولد عام 1941 اختار أن يغادرنا قبل دخول تاريخ ذكرى النّكبة حيّز الزمان والمكان، غادرنا في 14أيار عام 2021 عن عمر ناهز الثمانين عاماً.
من دواعي الدهشة أيضاً- تواؤم تاريخ الذكرى الأربعين للبروفيسور قنازع مع تاريخ رسالته الالكترونية لي وكتب فيها؛-
حضرة الأخت رندة العزيزة،
"مرفق ما كتبت وفاءً لصديق أعتز به ولا أنساه أبداً، مع شديد الاعتذار عن التقصير الكبير بحق هذا الانسان الرائع". جورج. 18/6/2019.
فكما أن الصورة بألف كلمة، كذلك أيضاً تواريخ معيّنة قادرة هي أن تكون بألف عبرة، دمعة وابتسامة.
هنا لا يسعني سوى طلب العذر من أرواح الصديقين الحميميين فضل وجورج، فقد وعدت الأول باصطحابه لزيارة صديق في الناصرة ولم أفعل، أخذتني الحياة بمسئولياته وجرّ العقد أخاه العقد وغادرنا أبي والغصّة في قلبه وحلقه... وعدت الأستاذ جورج قبل سنتين أن أزوره لاستكمال الحديث بهدف التوثيق ولم أفعل، جمّدني رحيل والدي في ذكرى ميلادي أولاً، ومنعتنا الكورونا تالياً.
عذراً وشكراً لقامتين أفتخر بهما وأعتز.
لروح البروفيسور جورج قنازع الرحمة والخلود.
لزوجته، أولاده وأحفاده ولكل محبيه وأقربائه حسن العزاء.
[email protected]