"فلتانة عمي فلتانة" عبارة سمعتها من إحدى الشخصيات في مسلسل سوري، يرددها كلما شاهد أو سمع عن أمر ما يدل على حالة الانفلات وعدم الانضباط والتهور التي يعايشها، وأجد تلك العبارة بكلماتها القليلة والنافذة، أكثر ما تعكس واقع مجتمعنا في الأيام والشهور بل والسنوات الأخيرة، الذي يشهد ويعيش حالة من الانفلات لم يسبق أن مرت عليه.
فلتانة اجتماعيا .. مجتمعنا يشهد انفلاتا غريبا ومتصاعدا إلى حد التهور والانتحار. مسألة العنف لم تعد مجرد عنف واعتداءات وطوشة تنتهي بمصالحة ومصافحة وأحيانا بصداقة جديدة، لقد تطور لدينا العنف فبات عمليات قتل منظمة ومدروسة ومخططة، أي بات الاجرام مدرسة ونهجا وإدارة وكوادر ورواتب، وربما سيلا جارفا لا يقدر أحد على إيقافه.
فلتانة تربويا.. قضية التربية لم تعد من مسؤولية الوالدين وكبار العائلة، والمدرسة لم تعد تمتلك السيطرة والوسائل التربوية والقانونية الرادعة، والمجتمع بات قاصرا بل عاجزا عن الحفاظ على العلاقات الاجتماعية، التي صانت ورعت ممانعة مجتمعنا وقوته على مدار سنوات طويلة.
فلتانة أمنيا.. اطلاق رصاص، حرق سيارات، تخريب ممتلكات هذا ما يسود بلداتنا العربية وما من قوة رادعة. الشرطة تميزت بلامبالاتها للحالة السائدة في مجتمعنا عملا بمقولة "فخار يكسر بعضه"، تقاعست وأغمضت عيونها عن ضرورة القيام بواجبها ودورها ووظيفتها حتى لما وصلت النار الى محيطها القريب، فكان لا بد أن يصل الرصاص إلى سياراتها ومراكزها وعناصرها، وبات حارس الأمن بحاجة الى من يحرس أمنه.
فلتانة صحيا.. حالة من الفوضى تسود مجتمعنا في تعاملنا مع جائحة كورونا، التي حصدت ومازالت تحصد أرواحا وأشخاصا قريبين منا دون رحمة، بينما العديد والكثير من بيننا يواصل استهتاره بهذه الجائحة ورافضا التطعيم (ولست في معرض مناقشة صحة الموقف أو عدمه). كثيرون ظنوا أن الكورونا ستلقننا درسا في السلوكيات وضرورة تغيير بعض العادات الدخيلة، لكن لم يحدث شيئا من هذا. وما أن تم التخفيف من القيود وفتح الأماكن العامة، حتى سارع معظم الناس إلى الانطلاق والتجمع واللقاء بكثافة، بذريعة الملل من القيود التي فرضت عليهم في العام الأخير، وأخذ البعض يخطط للعودة إلى حفلات الأعراس بمشاركة كبيرة، ضاربا عرض الحائط بنصائح الأطباء ومتجاهلا ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات بالجائحة.
فلتانة أخلاقيا.. سقط الخجل من قاموسنا في عصر ما بعد الحداثة، وفي ظل ما اصطلح على تسميته "وسائل التواصل الاجتماعي"، سقطت الحدود والحواجز واختفت الرقابة الذاتية قبل القانونية، على ما تتناقله تلك الوسائل من أفلام وأقوال ومشاهد يندى لها الجبين، دون اهتمام بالذوق العام أو احتساب لوجود أطفال في مجتمعنا ينكشفون لأمور ستعود بالويلات على مستقبلهم. تفكك العائلات ونسبة الطلاق في ارتفاع مستمر، وما من ضابط أو حائل دون الانهيار الكبير القادم.
فلتانة سياسيا.. وهنا حدّث ولا حرج. حالنا اليوم يثير الشفقة. لم تعد هناك ثوابت وروادع. سقط القناع عن كثير من الوجوه. حتى الخجل لم يعد له وجود في سلوكيات البعض منا. نزحف نحو قامعنا لنلعق حذاءه. نفكك وحدتنا ونحلّ شراكتنا من أجل مكاسب فردية رخيصة. ننسى قضايانا المفصلية والأساسية ونسعى وراء مصالح شخصية .. لم نعد نأبه للاحتلال وقمع شعبنا وحرمانه من حقوقه الأساسية. نسينا الضائقة السكنية وحرماننا من الخرائط الهيكلية ورخص البناء. اعتدنا على العنف والقتل والاجرام واطلاق الرصاص وتفجير المفرقعات. ضحايا حوادث العمل والطرق أمست من تقاليدنا المتعارف عليها. وماذا بقي لنا من قضايا ننشغل بها ونشغل بها وسائل الاعلام؟ قضية المثليين وفرض العلاج القسري عليهم، أضحت في رأس سلم أولوياتنا واهتماماتنا والشغل الشاغل لنا في المعركة الانتخابية. مقاطعة الطحينة والاستهزاء بكل من يأكل الطحينة (ربما نتحول الى أكل الحمص من العدس!!) من أجل الوصول إلى الكنيست. التكفير والتشويه والتزوير والتشنيع على خصومنا السياسيين بات أمرا محللا. شرعنة التحالف مع الذين سنّوا القوانين العنصرية ضد العرب، وتحليل الانضمام لحلف نتنياهو تحت يافطة المقايضة الرخيصة والمشوهة لم يعد حراما وعيبا. السقوط السياسي والأخلاقي بات مدرسة يدعو البعض إلى اتباع نهجها.
لله درك يا من قلت " فلتانة عمي.. الدنيا فلتانة.. قلنالك فلتانة".
[email protected]