تختلط لدي مشاعر القلق والحزن والمرارة كلما تذكرت وصيتها. لله درك يا أم خليل..!! أما كان بالإمكان أن تطلبي شيئا آخر نملك تحقيقه غير هذا؟
كنت ،ولا أزال أخشى عدم قدرتي على تحقيق رغبتها. آه...لو أنها..!!كم كنت أغضب منها عندما كانت تكرر وصيتها علينا المرة تلو الأخرى . كنت أستشيط غضبا وأتعارك معها ،واتهمها بمحاولة تنغيصنا،تنغيصي ،عندما تأتي على ذكر الموت وذكر وصيتها العنيدة.لا أدري
يقينا، أيهما كان يمرموني أكثر في طلبها، هل هو فكرة موتها الذي كنت أرفض قبوله كقدر لا راد له؟ أم ذاك الطلب المستحيل.؟في أخر مرة توجهت لي مباشرة في الطلب ،كان ذلك قبل وفاتها بسنتين أو ثلاثة. لم أعد أذكر تماما،كانت تجلس على السرير ،وضعت الإنجيل الذي كانت تقرأ به جانبا ، ومن وراء نظارتها نظرت إلي نظرات تفيض بالرجاء والقوة معاً:" اسمعي يمّا أنا بديش اتكل غير على الله وعليك. بتفهميهم لأخواتك يحطوني بتابوت من الستانلس لما أموت ، ويدفنوني فيه، مشان عظامي ما تبلى ، ولما يصير حل ورجعة لفلسطين ، بتحفروا تحت زتونة من زتونات أهلي بعيلبون وبتدفنوني تحتها... ها... فهمت شو عم بوصيك أوعديني يمّا"..!!؟؟؟
لا أذكر حينها ماذا قلت، ولكن كل ما أذكره في تلك اللحظات أنني عاهدت نفسي على العمل لتحقيق رغبتها ، مهما كلفني هذا الطلب من التزامات. لا أستطيع الادعاء أنني من النوع الذي يأبه قليلا أو كثيرا بمثيولوجيا الموت ولا حتى بطقوسه، ولا يهمني حقيقة أين أموت ولا أين أدفن.ولا أحمل في قراري نفسي أية أسئلة لما وراء الموت . وأن الأمر كان ولم يزل سيان عندي . لاعتقادي الراسخ ان الموت لا يعبأ بوصايانا ، كما لا يعنيه نوع التراب ولا اسم الوطن ، وان هذه الأشياء كلها هي من عدد الحياة . ولكن الأمر لا يتعلق بي ، بل يتعلق بامرأة تمثل لي ...ماذا أقول؟ ، إنها أمي.المخلوق الوحيد في هذا العالم التي أجد صعوبة تصل الى حد الاستحالة ،أن أرفض أي من طلباتها.لا ،لم اشعر يوما في علاقتي معها انني اقوم بتنفيذ وصايا إلهية أو دينية.كما لم يكن يوما بالنسبة لي خضوعا أعمى لمشيئة الآباء، علاقتي بأمي كانت على الدوام علاقة عصية على التفسير ،نتعارك ونتناكف على الدوام، انتقدها وانتقد تفكيرها وهي تفعل الشيء نفسه، كان يحلو لها في بعض الأحيان أن تسميني بالبدوية ، لأنني لم أكن اهتم أو أعبأ بالطقوس الاجتماعية وكان من عاداتي الدائمة كسر كل ما هو مألوف من القواعد، الأمر الذي كان يغيظها غالبا ويضحكها أحيانا. كنت أحبها بطريقة تجعلني دائمة القلق عليها.لا اطيق ان اراها حزينة او متألمة أو باكية.وكنت لا أتورع من العراك مع والدي والصراخ في وجهه ، إذا ما حاول إزعاجها أو إغضابها، وكنت لا أتردد من الخروج من جلد الابنة لأتلبس دور الوصية على أمي أمامه إذا ما شعرت أنه تسبب لها بأي ألم أو أي أذى. حتى صار يحسب حسابا في وجودي من التعرض لها.كنت لا أتردد عندما تغضب مني من الانحناء عنداقدامها بكل رضا وسرور ،وتقبيلها دون أن أشعر بأية غضاضة ولا أي إذلال.كنت افعل هذا بحرية كاملة وأنا أغنجها وأدللها واعتبر نفسي امها وهي ابنتي.ولكن وصيتها وضعتني في موقف صعب، وهي لا تبارح مخيلتي كيف ؟ ومتى ؟ فكرت كثيرا بالأمر ، قلبته من جميع وجوهه في محاولة لإيجاد حل خاص بعيدا عن واقع السياسة .لدرجة صرت أردد بيني وبين نفسي أنه حتى لو بقي من عمري يوما فسأحقق رغبتها إن استطعت، ولكن الأمر ليس بيدي.وظروف تحقيقه تزداد تعقيدا ،وربما لا اعيش الى حين تتغير الظروف ويصير بإمكاني نقل رفاتها.
أمس كنت أفكر بوصيتها،وبحركة شبيهة بحركة أمي عندما نظرت إلي من وراء نظارتها لتلقي على مسامعي وصيتها، توجهت لابنتي من فوق نظارتي،اسمعي ريما، هل لك أن تعدينني بنقل رفات جدتك إلى عيلبون لتدفن كما هي رغبتها ،تحت زيتونة من زيتونات ارضها اذا مت دون أن...... ؟
..!!!غضبت ابنتي لذكر اسم الموت على
لساني وتعاركت معي واتهمتني بمحاولة التنغيص و....و...
بقلم: ناديه عيلبوني
[email protected]