لم أسمع عن المسلسل السوري "شارع شيكاغو"، إلا بعدما اطلعت على ما تناقلته بعض المواقع الألكترونية، في النشر عن الضجة التي أثيرت في وسائل التواصل الاجتماعي حول المسلسل، وخاصة أنه "يخدش الحياء" ويحتوي على "مشاهد جريئة" كما قيل، والطامة الكبرى تمثلت في صورة ملصق المسلسل التي تضم بطلي المسلسل سلاف فواخرجي ومهيار الخضور وهما يهمان بتبادل قبلة عاطفية! يا للجريمة النكراء ويا للعار.. عار العرب الذي بات يهتز لمشهد تمثيلي، ولا تؤثر فيه كل بشاعات المشاهد الواقعية من قتل واجرام ودماء. وفهمت من تلك التعليقات والتحفظات أن بعض العناصر المتزمتة والمحافظة تثير تلك الضجة المفتعلة، خاصة وأنها لم تتعرض لمضمون وقصة المسلسل ومستوى إخراجه الفني، انما اهتمت كعادتها بأمور شكلية وخارجية، وكل ذلك بحجة الخروج عن "الحياء العام".
وقبل أن أصدر حكمي على العمل، ورغم يقيني بصحة موقفي من الحملة المشبوهة، ارتأيت أن أتمهل وأن أذهب لحضور حلقات المسلسل عبر شبكة الانترنت، كما "جوجلت" في الشبكة العنكبوتية باحثا عن المزيد من المعلومات حول الشارع واذا ما كان حقيقة أم خيالا، لأنه لم يسبق لي أن سمعت باسم الشارع. وكم كانت دهشتي كبيرة عند قراءة المعلومات عن الشارع المذكور والذي يقع في قلب دمشق، وقد حمل أكثر من اسم، وهو شارع صغير جدا لا يتجاوز طوله 150 مترا، لكنه كان حافلا بالحياة وخاصة حياة الليل والسهر، حيث انتشرت فيه المقاهي والبارات التي شهدت حفلات موسيقية وغنائية، وتلك الحياة تجلب المشاكل والصراعات بين رواد الشارع ومع مجموعة "الاخوان المسلمين"، التي سعت بالقوة والترهيب الى اغلاق الشارع لكنها فشلت في ذلك.
** مسلسل جديد بإخراجه وتقنياته رغم قصته القديمة **
يحكي مسلسل "شارع شيكاغو" قصة فنانة اشتهرت بالغناء في أوائل الستينات وتدعى "ميرامار" وتلعب دورها الفنانة المتألقة سلاف فواخرجي، وهي كفيفة وشقيقها يعمل محققا في الأمن السوري، تتعرف الى شاب صحفي متمرد من رواد شارع شيكاغو، فيقع في غرامها ويعيشان قصة حب تتخللها المطاردات والملاحقات، ويكون الاعتقال لأكثر من مرة من نصيب مراد حيث يلاحقه شقيق مراد ويشرف على تعذيبه في المعتقل، وتدور معظم أحداث المسلسل في الشارع المذكور وتنتهي القصة بالايقاع بميرامار المتمردة على عائلتها والتقاليد الاجتماعية من قبل شقيقها الذي يقتلها في المعتقل.
تبدأ أحداث المسلسل في الحلقة الأولى، التي عدت لمشاهدتها ثانية قبل كتابة المقال، بمشهد لسيارة قديمة من فترة الستينات تسير في طريق طويل خارج المدينة، وينطلق منها صوت رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر في إحدى خطبه، ثم يترجل ثلاثة اشخاص ساهموا في قتل ميرامار وهم شقيقها واثنان من شخصيات شارع ميرامار، ونراهم يحفرون حفرة لدفت جثمانها.
بعدها تنقلنا الكاميرا الى شوارع دمشق اليوم، ونرى الممثل القدير دريد لحام يسير الى ان يصل الى شارع شيكاغو (سابقا) يفتح محله وهو يتمتم بأنه يريد ان يريح ضميره، ثم يتجه الى مكتب الأمن، ويعلن أمام الضابط يوسف (وائل نور) أنه قتل ميرامار ويخرج مع قوة كبيرة حيث يحفرون في نفس المكان الذي شاهدناه قبلا ولا يعثرون على الجثة، ويقتل (دريد لحام) في نفس الليلة على خلفية لاعترافه، ويبدأ المحقق يوسف في التحقيق بالحادث ويصل الى منزل مراد عكاش للاستفسار منه عن الحادثة مما يثير ذكريات مراد، ومن هنا تبدأ الأحداث تارة تعود بنا الى أيام شارع شيكاغو الصاخبة، وطورا الى مجريات تطور التحقيقات وتعقيداتها في جريمة قتل وقعت قبل أكثر من نصف قرن.
الجريمة تحصل يوم 28 أيلول 1961، وهو يوم انفصال الوحدة بين مصر وسوريا. وعلى امتداد المسلسل نرى صور عبد الناصر في أحياء دمشق وخاصة شارع شيكاغو، الذي حمل أسماء مصرية منها "فؤاد الأول" وبعدها "بور سعيد" تيمنا بالمدينة المصرية التي تصدت للعدوان الثلاثي عليها بعد قرار تأميم قناة السويس. ويطلق على الشارع اسم "شيكاغو" بعد ذلك نسبة الى المدينة الأمريكية في إشارة الى حياة الليل التي يشهدها.
قصة المسلسل غير مألوفة في الدراما السورية، ونجح المخرج محمد عبد العزيز في الدمج بين حقبة الرومانسية السينمائية في تمازج فريد مع الزمن الحالي، وفق تقاطعات درامية تستعرض كلا المرحلتين في انسجام وتناسق دون إسقاطات اعتباطية.
وتألق الفنانون المشاركون في المسلسل بتأدية أدوارهم وخاصة: سلاف فواخرجي (ميرامار)، مهيار خضور (في دور مراد عكاش الشاب)، عباس النوري (في دور مراد الكهل)، الفنانة المطربة أمل عرفة (في دور ميرامار الثانية)، شكران مرتجى وظهور مميز للفنان القدير دريد لحام، كضيف في المسلسل.
* مشاهد القتل وسفك الدماء أفظع من مشاهد الحب "الجريئة" *
صحيح أن المسلسل احتوى على مشاهد جريئة وغير مألوفة في الدراما التلفزيونية، لكن من شاهد المسلسل دون نظرة مسبقة، سيدرك أن تلك المشاهد لم تكن دخيلة أو مقحمة في أحداث المسلسل بل كانت طبيعية وضمن السياق، لكن المخرج تمتع بالجرأة على تجسيدها على الشاشة، وهذا هو الجديد في الأمر.
ومن يراجع الأفلام المصرية من سنوات الستين والسبعين، التي كنا نشاهدها صغارا، يذكر المشاهد الجريئة التي احتوت عليها، ويذكر الممثلات المصريات بالميني والبكيني دون أن يعتبر ذلك "خدش للحياء". وربما يدعي البعض أن تلك أفلام سينمائية عرضت في دور السينما للكبار، لكن لا يمكن لأحد أن يتجاهل أن تلك الأفلام تم عرضها بعد سنوات قليلة في البيوت وخاصة بعد انتشار جهاز التلفزيون دون اعتراض ولكافة الأجيال. هذا ناهيك اليوم عن انتشار الانترنت في أجهزة الجوال التي تنتشر بين أيدي الصغار قبل الكبار، فلم تعد هناك حواجز وممنوعات.
المسألة لم تعد مسألة "خدش حياء" وخروج عن "الأخلاق". ومن يتابع ما يعرض على شاشات التلفاز من مشاهد قتل واجرام وسفك دماء بأبشع أشكالها أمام عيون الأطفال والصغار الى جانب الكبار، دون أن يعترض المعترضون وأصحاب "القيم" و"الشرف" على ما يعرض وينتشر على أرض الواقع، بل أن بعضهم من ممارسي تلك الأعمال الوحشية أو المؤيدين لها، لا يحق لهم الاعتراض على مشاهد تمثيلية جريئة. كما أن ما يشاهده أطفالنا اليوم في أجهزة الحاسوب والجوال دون رقيب أو حسيب، وما كشف عنه ويكشف يوميا في عدة مواقع، تقف له شعور الرؤوس، ويقوم البعض بطمس رأسه في الرمل كالنعام أمام كل ذلك، ويخرج علينا زاعقا مستفظعا مشهدا تمثيليا في مسلسل لا يعجبه ولا يروق له. فالقضية ليست فنية ولا أخلاقية بقدر ما هي سياسية وكل شيء بات مكشوفا، فكفوا عن تلك المهازل التي تمارسونها.
[email protected]