تواجهُ كرتنا الأرضيّة منذ إطلالات عامنا الحالي 2020 انتشار جائحة وباء فيروس الكورونا المستجدّ، وقد غيّرت تلك الجائحة الخطيرة ملامح حياتنا في كثيرٍ من تفاصيلها اليوميّة والموسميّة، فصرنا نؤرّخ أحداثنا قبلها وبعدها، وقد أفرزت الجائحة كثيرًا من مظاهر الانغلاق والانعزال في الممارسات الفرديّة والجماعيّة درءًا ووقايةً من انتشارها بصفةٍ أعلى، ونحن نعيش حالاتٍ من التمزّق بين تصديق كلّ ما يصلنا من وسائل الاتّصال الاجتماعيّ الرقميّة من موادّ ومعلوماتٍ وقصصٍ بعضها ينكر الجائحة ويصفها بالمؤامرة على البشريّة أو علينا نحن كأمّةٍ، وبعضها الآخر يصف خطورتها ويرسم حدودها بمعطياتٍ باعثةٍ على الخوف والتهويل.
لم تعد حياتنا كما كانت من قبل الكورونا، إذ تضرّرت بسببها معظم مناحي الحياة التي كنّا نعتقد أنّها تشكّل أنماط عيشتنا الطبيعيّة الحتميّة، ويبدو لي أنّ المستقبل القريب يواري عنّا مزيدًا من تلك التغييرات التي ستُخضعنا لواقعٍ مغايرٍ عن الذي اعتدناه.
أثّرت أزمة كورونا على سلوك البشر الفرديّ بصفةٍ ملحوظةٍ، فقد استجاب كثيرٌ منّا، وسيزيد عددهم قريبًا، لنظام الحجر الصحّيّ والعزل المنزليّ، وارتفع منسوب القلق الفرديّ على الذات والغير، إذ بدأنا نخشى كثيرًا على أهلنا كبارًا وصغارًا من أن تنتقل لهم عدوى الفيروس منّا أو من غيرنا، ولهذا بدأنا نشعر بغياب الكثيرين من الذين اعتدنا وجودهم في بيئة حياتنا اليوميّة الرتيبة، وليس من شكٍّ في أنّ هذه الحالة تنجب معها وضعيّةً نفسيّةً خطرةً في المستوى النفسيّ للكثيرين، وينجم عنها انعزال نفسيٌّ ضارٌّ نفسيًّا، وتخلق فراغًا في المساحة التواصليّة الحيويّة لنا كبشرٍ لا نقدر أن نعيش دون ملئها.
لعلّ وجودي في معظم وقتي المهنيّ والحياتيّ ضمن سلك التعليم، وكوني مديرًا للمدرسة الإعداديّة في قرية عيلوط لسنواتٍ مضت، يجعلني أكثر انكشافًا على تداعيات الأكمة في مجال التعليم والتدريس في الوسط العربيّ، فقد تغيّرت منظومة التعليم والتعلّم تغييرًا قسريًّا وسريعًا بسببها، فتوقّفت المدارس عن استقبال كلّ طلّابها بشكلٍ اعتياديٍّ، ووزّعتهم في مجموعاتٍ مصغّرةٍ وفي أوقاتٍ متباعدةٍ لمنع انتشار العدوى والحيلولة دون تحوّل المدرسة إلى بيئة وبائيّة في المجتمع، فصارت الغاية العليا في المدرسة هي الحفاظ على سلامة الطلّاب من العدوى، ثمّ بعد ذلك تأتي بقيّة الغايات التدريسيّة المعلومة، وقد تغيّب كثيرٌ من طلّابنا بسبب الوباء وانتقالهم إلى حالات الحظر والحجر الصحّيّ، وكان ذلك دافعًا على تقليل عددهم في المدارس أكثر، وبدا الأمر عسيرًا على الاحتواء لولا إصرار الطواقم التدريسيّة والأهلي ومن خلفهم الوزارة في دفع عمليّة التعلّم قدمًا من خلال المنظومة الممكنة. تأزّمت الدراسة في المدارس مع ارتفاع النسب الوبائيّة في الوسط في الشهر الأخير، ممّا أخضعَنا جميعًا لإغلاقٍ يجثم فوق رغباتنا وطموحاتنا وإراداتنا، وها نحن نعلّم في مدارسنا وفق منظومة العلّم من بُعدٍ حتّى يأتي الفرج وينكشف البلاء عنّا.
بصدقٍ تامٍّ، وبواقعيّةٍ شفّافةٍ، لا أشكّ أنّ الحالة التي وصلنا إليها قد سبّبت ضررًا جسيمًا للطلّاب والمعلّمين والعمليّة التدريسيّة برمّتها، لكنّها وفّرت لنا مزيدًا من الفرص للابتكار والخلق ومواجهة التحدّيات وهي في مجملها مساحةٌ من الواقع الذي دفعنا للبحث فيه ومن خلاله عن طرائق تعيننا في تيسيره وكسب ما يمكننا فيه من مكاسب. لقد سرّع حالنا الآن من رقمنتنا ورقمنة تعليمنا، فخلال أيّامٍ وأسابيع تعلّم كمٌّ غفيرٌ من طلّابنا طرق التعليم الرقميّة وفق منظومة التعلّم من بُعد، والتي أتاحت أمامنا جميعًا مجالاتٍ لابتكار تعلّمٍ ذي جودةٍ يعتمد على منصّات التعلّم الرقميّة المتعدّدة، فاستثمر طلّابنا جلّ وقتهم عبر أجهزتهم الخليويّة التي كانت تُستخدم للتسلية فقط من أجل التعلّم بطرقٍ تحتاج معرفةً وثقافةً رقميّةً مركّبةً، هيّأت أمام كثيرٍ من طلّابنا وطالباتنا فرصًا حقيقيّةً للتعلّم الحقيقيّ الذي لا يقلّ جودةً ونفعًا عن التعلّم التقليديّ.
نواجه في وسطنا العربيّ إشكاليّةً بسبب عدم توفّر الأجهزة الذكيّة في بيوتنا بشكلٍ كافٍ، وخاصّة لدى العائلات محدودة الدخل، والعائلات ذات العدد الكبير من الأولاد، وهنا يمكن الإشادة بالدور الأهليّ في قرانا العربيّة وبدور المؤسّسات المحلّيّة والتي تصبو للحدّ من النقص الموجود في الأجهزة اللازمة لتبيك أكبر عددٍ ممكنٍ من طلّابنا بمنظومات التعلّم من بُعدٍ. لكنّ ذلك يحتاج وقتًا قد يطول، وسيخسر بسببه طلّابٌ كثيرون إمكانيّات التعلّم بصفةٍ أساسيّةٍ، وهذا ما يشكّل خطورةً قصوى ينبغي تقزيمها سريعًا.
لذلك، أجدني في ختام تصوّري الشخصيّ أقول مخاطبًا أهلنا في الوسط العربيّ جميعًا: رغم ما نحن فيه من تخبّطٍ عامٍّ، فإنّنا لن نخرج من الصدمات القادمة إلّا بالوعي الفرديّ والجماعيّ، وبتحمّل المسؤوليّة، وإبداء الجدّيّة والالتزام بالضوابط الصحّيّة والمجتمعيّة التي ستمنع وقوع الكارثة. نحتاج إلى مراجعاتٍ في عاداتنا وتقاليدنا في مجالات حياتنا كافّةً، تطبيقًا لمنظومة حياةٍ صالحةٍ سليمةٍ توفّر الأمن والاستمرار والتقدّم والتعلّم، وعلينا ألّا نهدر طاقاتنا بالخمول، بل إنّ المحنة تستدعي منّا اجتهادًا في النشاط والعمل ولا سيّما الابتكاريّ الخلّاق، لتحقيق الغايات التدريسيّة في مجال التدريس والتعلّم، وأنا على ثقةٍ أنّ كوادر المعلّمين والمعلّمات في وسطنا قادرون على العطاء والتواصل مع طلّابنا بطرائق رقميّةٍ فعّالةٍ ريثما نعود إلى طبيعةٍ ألفناها. بذلك، وبشيءٍ من الصبر والوعي سنستطيع كشف ما لدينا من مقوّمات الحياة الأفضل.
[email protected]