حدثان أثارا لهفة العالم بدوله وإعلامه خلال الأسبوعين الأخيرين.. الأول نجم عن الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش وحكومته، وما أعقبها من أحداث في أوكرانيا استغلتها روسيا لإثارة الأقلية الروسية في إقليم القرم ذي الحكم الذاتي، فأعلن الاستقلال والانضمام للاتحاد الروسي الذي فتح ذراعيه إلى آخر مدى لكي يضيف شبه جزيرة القرم، ويتطلع إلى المنطقة الشرقية في الدولة الأوكرانية حيث يوجد أصحاب الأصول الروسية. الحدث كان له روافد كثيرة أدت إليه في التاريخ الأوكراني والروسي المعاصر، كما أن انعكاساته على الأمن الأوروبي سوف تكون خطيرة على المديين القصير والمتوسط. ولكن على أي الأحوال، فإن الحدث معروف ومعلن وله سوابق تاريخية مستمدة من الإمبراطوريتين الروسية القيصرية القديمة والسوفياتية التي أعقبتها، وسوف يجد المحللون والمراقبون الكثير الذي يستندون إليه للتحليل في تاريخ ما بين الحربين العالميتين وما أعقبهما من حرب باردة بين الشرق والغرب.
الحدث الثاني، على عكس الحدث الأول، ليس له مرجعيات كثيرة، وفيه من الغموض والعجب ما يدهش ويثير، على الأقل حتى وقت كتابة هذا المقال. جوهر الحدث هو الاختفاء الغامض لطائرة شركة الخطوط الجوية الماليزية رقم 370 والمتوجهة من كوالالمبور إلى بكين حاملة 239 راكبا مع طاقم الطائرة يشكلون جميعا 15 جنسية أغلبهم من الصينيين. الحادث جرى في الثامن من مارس (آذار) عندما اختفت الطائرة بعد عبورها الأجواء الماليزية وهي في طريقها إلى الشرق في اتجاه الصين. انقطعت كل الاتصالات فجأة مع الطائرة كما لو أن أحدا أغلق كل طرق الاتصال، وكان التفسير الأول أن الطائرة انفجرت أو أصابها حادث من نوع أو آخر، ومن ثم اندفعت ماليزيا والصين ودول أخرى في جنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا بالإضافة للولايات المتحدة، للبحث عن الطائرة أو أجزاء منها تدل عليها. هذا التفسير كانت مرجعيته حوادث الطائرات المعروفة التي تحدث لخطأ فني أو بشري وبعدها يجري البحث عن المفقودين، ومعهم «الصندوق الأسود» الذي جرى الظن أنه سوف يحمل سر انفجار الطائرة. لعب الحظ لعبته وكلما لاحت أجزاء معدنية هنا أو هناك في قاع بحر جرى الظن أنه تم العثور على الطائرة، ولكن البحث والتدقيق أثبت أن ما وجد كان محض سراب.
مع الوقت بدأت مجموعة من الحقائق في الظهور ليست معتادة في حوادث الطائرات، فقد ثبت أن محرك الطائرة، وهي من طراز «بوينغ 777» الذي صنعته شركة «رولز رويس» له خاصية بث نبضات يجري استقبالها بواسطة الشركة، وثبت أن المحرك كان يعمل لبضع ساعات بعد وقت انقطاع الاتصالات مع الطائرة. بعد ذلك بدأت الولايات المتحدة التي يشارك أسطولها في البحث عن بقايا الطائرة في بث معلومات مثيرة، وهي أن بثا كان يجري من أجزاء أخرى في الطائرة على مدى أربع ساعات كاملة بعد انقطاع الاتصال. ثم بعد ذلك ذاعت القنبلة الأكثر تأثيرا، وهي أن الأقمار الصناعية الأميركية رصدت أن الطائرة استمرت في الطيران لسبع ساعات، وأثناء ذلك فإنها عادت لكي تخترق الأجواء الماليزية متجهة غربا نحو المحيط الهندي. معنى ذلك أولا أن الولايات المتحدة باتت لها وسائلها التي تبثها في كل مصنوعاتها من التليفون الجوال وحتى أجهزة الكومبيوتر والطائرات بحيث يكون لديها القدرة على المتابعة والمراقبة. وثانيا أن أمرا ما كان خطأ أو خطيئة في ماليزيا، فكيف يمكن لطائرة مدنية خرجت من الأجواء الماليزية ثم عادت إليها وعبرتها ولا يوجد مَن يعلم أو يعرف عنها شيئا؟! وثالثا أن ردود الفعل الواردة من بقية دول العالم التي لديها أقمار صناعية ووسائل متقدمة للمراقبة والتتبع مثل روسيا واليابان وحتى الصين لم تقدم شيئا يشفي الغليل.
هذه الوقائع جميعها بدأت تضع التفسيرات التالية داخل نظرية المؤامرة، وكانت المؤامرة الأولى منها «إسلامية»، على اعتبار أن جماعات «القاعدة» برعت في خطف الطائرات. ومما شجع على التفسير أنه ثبت وجود شخصين في الطائرة يحملان جوازات سفر سبق سرقتها ولم تقم شركة الطيران الماليزية أو الأمن الماليزي بمراجعة أرقام جوازات الركاب مع قاعدة البيانات العالمية للجوازات المفقودة أو المسروقة. وفي اتجاه مواز لقيام الشخصين الغامضين باختطاف الطائرة، فإن أجهزة الإعلام الغربية بدأت في التركيز على شخصية قائد الطائرة الطيار زكريا أحمد شاه، ومساعد الطيار فارق عبد الحميد، وكلاهما له تاريخ مشرف في الطيران. واقعة وجود جهاز للمحاكاة في بيت الأول، وقرب منزل الثاني من مسجد يصلي فيه كانت قرينة المؤامرة. الدخول في تفسير المؤامرة جعل هناك أسئلة أكثر من الإجابات.. فما هي العلاقة بين الراكبين والطيارين، أو أنه لا توجد علاقة، أو أن هناك أطرافا أخرى لم يعرفها أحد؟ والأهم من هذا وذاك، أين الطائرة نفسها؟ وإلى أين انتهى ركابها؟ وهل يمكن أن يجري الاختطاف من دون تفجير يعلن للعالم شيئا ما من الجنون، أم أنه جرى أخذ الطائرة إلى واحدة من الجزر؟ وهل يمكن أن تهبط طائرة في مكان من دون رصد من قمر صناعي أو حاملة طائرات أو سفينة صيد؟ وباختصار، مَن هو صاحب المصلحة في القصة كلها؟ الدول ليس لها مصلحة في إفساد حركة الطائرات، والجماعات الإرهابية لا تختطف طائرة إلا لكي تعلن شيئا ويكون لها سلسلة من المطالب، فأين ذلك كله؟
ما هو سر اختطاف الطائرة «MH 370»؟ سؤال لا يمكن تركه معلقا، وربما لن يمكن الإجابة عنه إلا إذا باحت الولايات المتحدة وشركة «بوينغ» بكل ما لديها من معلومات حول الموضوع. وبنفس الطريقة، فإن كل الدول الأخرى خاصة المشتركة في الرحلة عليها أن تقدم كل ما لديها من معلومات سواء حول الطائرة أو الركاب. والأرجح أنه لن يحل المعضلة ويكشف السر إلا لجنة تحقيق دولية تقوم بمراجعة الحقائق كلها، وتطرح الأسئلة الصحيحة حتى يمكن التوصل إلى إجابات صحيحة أيضا. الغموض الجاري حاليا مروع للغاية، لأن الحادث يمس عصبا حساسا في حركة المواصلات العالمية، وربما يكون أكثر ترويعا من الحالة التي وصلت لها أوروبا بعد انفصال إقليم القرم وانضمامه إلى روسيا الاتحادية. وسواء نشبت حرب باردة جديدة أو لم تنشب، فإن الأطراف معروفة، وهناك عناوين يمكن إرسال الرسائل إليها بالإغراء أو بالقهر أو كليهما معا. ولكن حادث الطائرة مشكلته الكبرى أنه لا يوجد عنوان يمكن البحث عنه، والبلد الذي انطلقت منه الطائرة لا يعرف الكثير ويطلب مساعدة العالم، والبلد الذي كانت الطائرة ذاهبة إليه لا يوجد لديه إلا الحزن والدموع، وما بين المنبع والمصب لا يوجد إلا فضاء بعيد وبحار عميقة ومحيط واسع!
نقلا عن الشرق الاوسط بقلم: عبد المنعم سعيد
[email protected]