تواجه بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، أزمات صعبة على الأصعدة كافة، أهمها بالنسبة له، ثلاث تهم فساد، قد تؤدّي إلى إدانته قضائيا وخسارته السلطة، ووصمه بالرئيس الفاسد، وحتى إلى دخوله السجن.
ويرى أن الإفلات من هذا المصير يكون عبر تغيير المسؤولين في مفاتيح القضاء المهمة المتعلقة بمحاكمته، وتغيير القوانين لحمايته منها. وحتى يحقق مبتغاه هذا، عليه الحصول على أغلبية يمينية مطلقة، وهو ليس بعيدًا عنها، وبحاجة فقط الى «دفشة» لزيادة الشعبية، والوصول إلى النصر السياسي، وقد تأتيه «الدفشة» من العرب. وإذا لم يكفه ذلك، فقد يلجأ إلى الحرب. نتنياهو بحاجة إلى صورة انتصار جديد على العرب، بالحرب أو بالسلم حتى ينجح في البقاء في الحكم.
رغم أنّ نتنياهو مسؤول عن جرائم حرب، وعن قتل الآلاف في قطاع غزّة والضفة الغربية، وسوريا وحتى في العراق، فإنّه يحاكم على قضايا فساد مالي لا أكثر. هذا هو الوجه الحقيقي لما يسمّى بالديمقراطية الإسرائيلية، التي تبهر الغرب وبعض العرب، وهي دومًا تمنح الأوسمة للمجرمين والقتلة، وتحاسب العابثين بأموالها وأنظمتها، بالضبط وفق منطق عصابات الإجرام. من المهم التوقف عند هذه المفارقة الإسرائيلية، لأننا في الأسابيع الأخيرة بدأنا نلمس ازديادًا ملحوظًا في إعجاب بعض العرب بكل ما هو إسرائيلي، وانبهار بالديمقراطية الإسرائيلية، التي تصل إلى حد محاكمة رئيس وزراء. ونقول لكل المعجبين: أنظروا جيّدًا إلى إيدي هؤلاء المسؤولين الإسرائيليين، تجدونها ملطّخة بالكثير من الدماء، وإذا استمر الإعجاب فإننا أمام حالة إفلاس أخلاقي لا أقل.
ومع أنّ إسرائيل مرتاحة إلى أن أحدًا لن يحاسبها على جرائمها، هناك خوف حقيقي لدى نخبها السياسية والأمنية والقضائية، من قرارات محتملة في محكمة الجنايات الدولية ضد عدد كبير من المسؤولين الإسرائيليين، الذين خرقوا القانون الدولي الإنساني، وارتكبوا جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. قد تطال المحاكمة الجنائية الدولية، عددا كبيرا من القيادات الإسرائيلية، منهم مئات الضباط والجنود، وعشرات الوزراء، وعدد كبير من المسؤولين عن الاستيطان. وهناك مسعى إسرائيلي لمنع مثل هذا الأمر بدعم أمريكي كامل، وبمساعدة متزايدة من أصدقاء إسرائيل العرب من خلال الصمت المتواطئ والفعل المتآمر، من تحت ومن فوق الطاولة. ويعود نتنياهو ويكرر في المحافل الدولية مقولة «إذا كان العرب معي فلماذا أنتم ضدي؟». وقد سمعت ذلك مباشرة من عدد من المسؤولين الأوروبيين، الذين التقيتهم في السنوات الأخيرة. يجب عدم الاستهانة بهذا الدعم العربي القائم والمقبل، فهو يقوّي مكانة وموقف إسرائيل عالميًا، وكانت باكورة الربح الإسرائيلي من الاتفاق مع الإمارات، زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي الجنرال احتياط غابي أشكنازي، إلى أوروبا وإعلانه تذليل العقبات أمام رفع مستوى العلاقات الاقتصادية والبحثية والسياسية مع دول الاتحاد الأوروبي، وتأكيده على أن الاتفاق مع الإمارات وتجميد الضم، يؤديان إلى خلق أجواء جديدة، وقفزة في علاقة إسرائيل وأوروبا، وهذا حبل نجاة مهم للاقتصاد الإسرائيلي.
لعلّ أكثر ما يقلق نتنياهو هو الملفات القضائية التي يواجهها، فهو يرى فيها خطرا وجوديا على حياته السياسية، وأصبح المبدأ الناظم لسياسات نتنياهو هو وقف محاكمته، ومنع إدانته، ويسبق هذا الاعتبار أي شيء آخر في حساباته. ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي، هو ان يستغل أول فرصة ممكنة لخوض انتخابات مبكّرة، والفوز بأغلبية مطلقة، تمكنه من تشكيل حكومة يمينية داعمة لحربه على الجهاز القضائي، وعلى الشرطة والدولة العميقة، التي يعتبرها عائقًا أمام تحقيق أهدافه الشخصية والسياسية. ويسعى نتنياهو تحديدًا إلى استبدال المدعي العام والمستشار القضائي للحكومة والمفتش العام للشرطة وعدد من القضاة وكل أصحاب المناصب، التي لها علاقة بمحاكمته وبالتحقيق معه، حتى يضعف «عداء» الجهات التي تقوم بمقاضاته، ويجعلها تسعى لتبرئته، بدل أن تسعى لإدانته، كما هو دورها في العادة. في المقابل ينوي اتخاذ قرارات في الكنيست، تمنحه الحصانة، وتمكّنه من تغيير قوانين قائمة لمنع تدخل المحكمة العليا بإلغاء القرار، كما هو متوقّع في مثل هذه الحال وكما فعلت المحكمة في حالات مشابهة في الماضي. وإذا كانت لديه أغلبية كافية فهو سيسعى لتمرير ما يسمى بالقانون الفرنسي، الذي يؤجّل إجراء تحقيق ومحاكمة رئيس وزراء إلى ما بعد انتهاء حكمه. ويعتقد خبراء في القضاء مطلعون على تفاصيل ملفات نتنياهو، ومن بينهم طاقم دفاعه، أنه إذا بقيت الأمور كما هي عليه اليوم، فهناك احتمال قوي أن تنتهي المحاكمة بدخول نتنياهو السجن، وعليه لن يستطيع أن يفلت من هذا الحكم إلا إذا فاز في الانتخابات فوزا مطلقا، ونفّذ انقلابا في الجهاز القضائي.
لقد بات من المؤكّد ان الانتخابات الإسرائيلية ستجري في العام المقبل، وتوقيتها يتعلق بتقييم نتنياهو لفرص الحصول على أغلبية مطلقة، خاصة أنّه ذاق الأمرين من ثلاث معارك انتخابية فشل فيها في تشكيل حكومة على هواه، حيث لم يحصل على أغلبية مطلقة لمعسكره اليميني، ونقصه، في الانتخابات الأخيرة، الحصول على ثلاثة أعضاء كنيست إضافيين. لقد امتنع نتنياهو مؤخّرًا عن إعلان انتخابات مبكّرة، رغم توفّر مبررات لذلك في جعبته. وكان السبب هو الأزمات الكبرى التي يواجهها، والتي قد تؤدّي به الى خسارة بدل الحصول على أغلبية.
أولى هذه الأزمات هو الارتفاع الحاد في تفشّي مرض كورونا، ما جعل إسرائيل تحتل المكان الأول في العالم في انتشار الوباء، ويرى معظم الإسرائيليين ان نتنياهو يتحمّل مسؤولية هذا التدهور، حيث دل آخر استطلاعات للرأي، أنّ أكثر من 60% يعتقدون أنه فشل في إدارة مكافحة الجائحة. هذا الفشل واضح للعيان، فالسمة الملازمة للحرب الإسرائيلية على كورونا هي الفوضى والتخبّط وغلبة الاعتبارات السياسية على الضروريات الصحية. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن إسرائيل ليست كليّة القدرة، كما يعتقد بعض العرب، بل إن الأردن مثلًا، ورغم إمكانياته المحدودة، أدار مواجهة كورونا أفضل من إسرائيل بمئة مرّة، ومع ذلك تصر دولة الإمارات، في حربها على كورونا، على التعاون مع الدولة العبرية الفاشلة، وليس مع الدول العربية الناجحة، نسبيًا بالطبع.
لقد أدت مواجهة كورونا لأزمة اقتصادية صعبة وركود شامل وغير مسبوق في إسرائيل، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 10%، ووصل عدد العاطلين عن العمل إلى حوالي المليون، وأفلست عشرات آلاف المصالح الاقتصادية الصغيرة، وانهارت السياحة وتدهورت حالة شركات الطيران، وعشرات الشركات الكبرى الأخرى. الأمر المهم في السياق الانتخابي، أن ملايين العائلات تضررت اقتصاديا، وسقطت الكثير منها تحت خط الفقر، وأصبحت بحاجة الى إغاثة، وهو أمر جديد في إسرائيل.
وتواجه حكومة نتنياهو نفسها مأزقًا صعبًا، جعلها لا تجتمع لمدة شهر، وهذا امر غير مسبوق في تاريخ الحكومات الإسرائيلية. لقد أقيمت هذه الحكومة كحكومة طوارئ لمواجهة الأزمة الصحية ـ الاقتصادية، لكنّها فشلت في إقرار ميزانية وبرنامج عمل اقتصادي، أو خطّة ملزمة لمواجهة كورونا، وهي لم تنجح سوى في تعميق الأزمة وجعلها عصيّة على الحل. وتطغى الخلافات على الحكومة في كل المجالات، لتصل حد الشلل الجزئي، سوى في المجال العسكري الأمني، حيث موقف المؤسسة الأمنية هو الحكم، ويبدو أنّ نتنياهو وغانتس سلّما، مؤقّتًا، القرار للجنرالات، الذين هم في العادة اقل تهوّرًا من القيادة السياسية. ولكن إذا أحس نتنياهو بأن سفينته تغرق، فسيبادر فورًا لاستعادة الحق في اتخاذ القرار، ليقوم بمغامرة عسكرية قد تفيده، حيث أن صورة نصر عسكري ما على العرب تساعده، ليس أقل من صورة استسلام بن زايد له.
بموازاة ذلك تتواصل للأسبوع الحادي عشر على التوالي المظاهرات الصاخبة، التي تطالب بتنحي نتيناهو بسبب الفساد وتخريب «الديمقراطية في إسرائيل». وتجري هذه المظاهرات على المفارق، وفوق الجسور ومقابل بيت نتنياهو في قيسارية، وحول مقر رئاسة الحكومة في ساحة باريس في القدس الغربية (التي يطغى عليها المشهد الرائع لمبنى كلية تراسانطة، التي نكبتها النكبة). ويخشى نتنياهو أن تؤدّي هذه المظاهرات، التي يشارك فيها عشرات الآلاف أسبوعيًا، إلى إضعاف قوّته الانتخابية، خاصة أن حكومته مضعضعة وغير مستقرة، لكن هناك في التفاعلات السياسية الداخلية ما قد يعوّضه عن ذلك، حيث استطاع تفتيت المعارضة، ومع ذلك هذا لا يكفيه للاطمئنان على فوز أكيد في الانتخابات المقبلة.
وإذ تؤدّي الأزمات الكبرى، التي يواجهها نتنياهو، إلى إضعاف قوته الانتخابية، وهو ما دلّت عليه الاستطلاعات عشية الإعلان عن الاتفاق مع الإمارات، فقد يأتيه الفرج مع عرب، لم يقصّروا معه في يوم من الأيام، فصمتوا حين ارتكب جرائم حرب، وسكتوا حين اتفق مع ترامب على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعلى نقل السفارة إليها، ولم يفعلوا شيئًا لمواجهة منح الشرعية للاستيطان، وضم الجولان. وما حدث في الأسابيع الأخيرة، أن نتنياهو بدأ يغرق، وبدل الوقوف جانبًا والتفرج عليه، مدّت له الإمارات حبل النجاة وانهالت عليه حبال النجاة العربية من كل حدب وصوب. أدّى الإعلان عن الاتفاق الإماراتي، وإطلاق الرحلات الجوية إلى أبو ظبي عبر الأجواء السعودية، والحديث عن طابور التطبيع العربي، إلى عودة الروح لنتنياهو، بعد أن كادت تخنقه الأزمات. وإذ يعكف رئيس الوزراء الإسرائيلي على الإعداد لانتخابات الإنقاذ المقبلة، وعلى اختيار الموعد المناسب لها، فهو لا ينسى أن في الأمر مغامرة، والخسارة واردة. ولو بقيت الأمور جارية كما هي عليه، لكانت خسارة نتنياهو مؤكّدة، لكن رياح التطبيع العربي عادت ورفعت أسهمه عند الرأي العام الإسرائيلي، ليصل معسكره في الاستطلاع الأخير للقناة الثانية الإسرائيلية إلى 65 عضو كنيست، ما يسمح له بتشكيل حكومة يمينية خالصة ومخلصة. لكن هذه نتيجة استطلاع فقط، وقد تتغير، وهناك حاجة للمزيد من الدعم العربي لتثبيتها.
فهل ينقذ العرب نتنياهو؟
[email protected]