بدأت نهاري مدمنًا على جرعة صبح، من رأسي تنسرب آخر كلمات أغنية فيروزية رافقت حلمي الذي لم أتذكر إن كان جميلًا أم لا. لم أتحرّك بنشاط مَن شبع نومًا وراحةً، لبست قميصًا أبيض وبدلة بلون الفحم، ومن رقبتي تدلّت ربطة عنق سوداء بدا عليها التعب.
بلعتُ عددًا من حبّات الدواء التي منذ سنوات صارت كفيلة بترويض ضغطي وبصدِّ مخاطر شتى، تستضعف جندُها جذعي بعد أن "خَمْسَنَ" وزحف يرافقه الأبيض نحو الرشد، وبعضهم قال نحو الوقار.
معظم الأخبار تحدثت عن تداعيات حلّ الكنيست الإسرائيلي وما أتاحه ذلك القرار من احتمالات. أخبار فلسطين، بالمقابل،كانت باردة، تفد إلى الأسواق كأنها معلّبة، بعضها يبدو ومفعوله قد انتهى، أحاول أن أجد محطة لا تتعاطى هذه المنبهات أو المسكنات، فأمل بسرعة وأطفئ الراديو.
مسافة الطريق من بيتي الى محكمة "عوفر" قصيرة، ولكن في القدس ليست هناك مسافات قصيرة، فكل مشوار قد يصير بطول الدودة الشريطية التي تعلمنا عنها قبل خمسين عامًا.
أمامي طابور من سيّارات يبدو عليها الغضب، تنتظر أن يحن عليها سائق باص توقّف في وسط الشارع كي يلمّ ركّابه. ورائي، في المقعد الأمامي، يجلس صبي بجانب أبيه، يقلب آخر ما تبقى من علبة "الإيكس- إيل" في جوفه ليمتلئ طاقة وغباوة. والده، يلبس بدلة فاخرة يمسك المقود بطرف إصبعين، على واحد منهما يشهق خاتم كبير من ذهب وساعة مربعة تغلق على رسغه، وبيده الأخرى يطوّق سيجارة، يمج منّها بتوتّر شديد، يحمّر صدغاه، ويصير وجهه كزهرة برقوق، لم يتحدث مع ابنه، ينفث دخان سيجارته في قمرة السيّارة فتمتلئ بياضًا وتصير كسحابة.
في قاعة المحكمة، يخبرني القاضي أن موكلي طلب أن لا يحضر، لكنه طالب أن لا نؤجل جلسة استئنافه، لأنه ينتظر قرارًا قد ينصفه بعد أن أمضى عشرين شهرًا في السجن الإداري.
لم يصدر القاضي قراره.
أعود إلى رام الله. بعد دقائق من دخولي مكتبي تخبرني أماني، أن زياد أبو عين قد استشهد في منطقة ترمسعيا، صعقت ولم أصدّق. ثمّ تأكدنا أن الخبر صحيح، ففلسطين، كما نعرفها، ما زالت بلادًا من زفرات وقهر رخيص.
كنت أعمل في مكتب المحامية اليهودية الشيوعية فيليتسيا لانجر،عندما سمعت اسم الشاب زيادأبو عين، وذلك حينما قررت أمريكا، في مطلع الثمانينيات، تسليمه لسلطات الاحتلال الإسرائيلي "كإرهابي" مطلوب لقضائها.
بعد خروجه من سجون الاحتلال تلاقينا وتزاملنا؛ فهو كان السجين وأنا المحامي،أو كان الناشط في الدفاع عن سجناء فلسطين وأنا الرفيق والشريك.
مسيرته حافلة، ككل مسيرات الفلسطينيين السائرين على دروب الشوك. في الطريق تحملّهم الأكف حينًا، وأحيانًا ترجمهم النميمة واللسان. هي فلسطين يا أيّها الزياد، بلد العزة والشهامة والعروس التي يُرديها البعض فتصير بلد الشماتة والملامة.
أغادر مكتبي لألتقي صديقًا يقاسمني ساعة عبث ورذاذ فاجعة. في المدخل، يلقاني "فتحاوي" لم أره منذ سنوات، عرفته يوم كان النضال في فلسطين يجمع ولا يفرق، عانقني بحرارة وسأل عن أخباري مستفسرًا عن غبرة حلّت بوجهي وصفرة طارئة، لم ينتظر ردي فاستطرد قائلًا: "زياد أبو عين، آه، الله يرحمه يا سيدي"، قالها، خالية من أي عاطفة أو عشم، ومضى ليكمل جلسة نضالية مع أصدقاء له كانوا ينتظرونه، فيها قد يتحدثون، عن كل شيء إلّا عن الخسارة في موت من كان مفروضًا أن يكون رفيق دمعهم ودربهم والنضال.
قبل العودة إلى بيتي في القدس، عرّجت على الصيدلية التي أشتري منها أدويتي حسب ما يسجّله طبيي مباشرة على حواسيب تلك الصيدليات المقدسية المتعاقدة مع "صناديق المرضى" الإسرائيلية.
كان الصيدلي الشاب عابسًا بشكل ملحوظ وهو يعد أدويتي، فسألته، عن سبب عبوسه وقلت بين مزح وجدية: "لو ظهرت أنا عابسًا، لكان هذا أمرًا طبيعيًا، لأنني تركت رام الله بعد أن ودّعت صديقًا قديمًا قضى في "معركة"، فقط الشيطان يعرف كيف يلتقط فيها ضحاياه، فها هو زياد أبو عين يمضي في رحلة الريح السوداء، ويرحل تاركًا لنا نثارًا من وعد ولحنًا من عاصفه وندم...".
لم يتفاعل الشاب مع ما حكيت، أعدّ قائمة الدواء وناولني إيّاها. بجانبه جلست شريكته في العمل، صيدلانية تعمل هناك وأعرفها من زياراتي السابقة، استمعت إليّ وأبدت امتعاضًا مهذّبًا على وجهها، بادرتني بحزم وقالت بعتب مصحوب بما يشبه الغضب الأقرب إلى الكراهية:
"على ماذا كل هذه الطنطنة في الإعلام والأخبار؟ لماذا بالذات عليه ومن أجله؟ ففي الماضي سقط الشهداء وسيسقط غيرهم، ما الخاص بهذا الإنسان ..؟"
كانت حادّة كشفرة، وناقمة كناقة، أسكتّها بلباقة وقلت لها: كما في الماضي هكذا اليوم، فللشهداء وصية وأضعف الايمان أن تحترموا رحيلهم. حاولت ببعض العقل أن أخفف من قتامة ما تهافت منها وملأ الفضاء، وكان كالليل والصدأ، وتساءلت، كيف لصبيّة عمرها نصف عمر الاحتلال أن تتكلم بهذه الكراهية على فلسطيني ابن لشعبها، قتله جنود الاحتلال الإسرائيلي، وكيف من المعقول أن تنطق بكل هذا الحقد، دون أن تذكر الاحتلال الإسرائيلي، ولو بهمسة أو رعشة أو خيال؟
سألتها: ألأنه من "هؤلاء"؟ ألأن زياد وصحبه صاروا هم الآخرين والأعداء؟ ومكانهم استوطن الاحتلال بيوتكم وحياتكم، التي بدأت بعده بعقدين، فولدتم وكان الاحتلال هو العادي والوليف، قد يُحَب وقد يُكرَه تمامًا كجار لكم أو كقريب بعيد؟
هل هكذا سيكون جيلكم الذي ولد في زمن الفرقة والبغض والضغينة؟
أطرقت الشابة، وبما يشبه صوت صفصافة همست وأصرت أن الشهادة في فلسطين تولد وتموت بلون واحد وهو حتمًا ليس لونك يا زياد.
تركت المكان أقطر أسى، كان يصحبني ندم، لأنني لم أحبّك أكثر يا زياد يوم كنت بيننا ومثلنا من لحم ودم، وليس مجرد طائر رعد وذكرى. فبعضهم، حتى شهيدًا لا يريدونك يا أخي!
[email protected]