الخامس عشر من أيّار
*لا تقلقّنَّ يا أبي فابنتك باقية على عهدِ ووعدِ ما ربّيتها عليه، وكما أردتها أن تكون
د. رندة فضل زريق- صبّاغ
ها هو هذا التاريخ يعود من جديد كما في كل عام، لكنه هذه المرة يعود فارغاً من أهم عناصره التي أعطته ألقاً وأعطتني فرحاً، فأن تأتي الى الحياة بعد عشرين عاماً من القهر والانتظار، من ذكرى النّكبة والمأساة الفلسطينية بالتمام والكمال، إنّما هو حدث تاريخي جلّل لا يمكنك أن تتعامل معه بحيادية ولا باعتياديه كبقية التواريخ في حياتك وحياة عائلتك. شاءت الأقدار أو القدير أن أولد في ذلك التاريخ المشئوم.. أن أولد في تاريخ الذكرى العشرين لما أطلقنا عليه قصدا أو سهوا اسم النّكبة كما لو أنه كارثة طبيعية لا دخل للبشر فيها!!
الخامس عشر من أيار، ذلك التاريخ الذي لعنه أحد زملاء أبي -خلال استذكارهما للنكبة وتداعياتها- على مسمعي فانزعجت دون أن أنجح بسبب سنّي الطفولي ادراك السبب.
" إنه تاريخ ميلاد رندتي وهي أعظم وأفضل تعويض لي عن خسائر النكبة ومصائبها"
ردّ أبي بتوتر، قبّلني وحملني بين ذراعيه مداعباً كمحاولة ليمسح من خاطري وذاكرتي ما سمعت للتو.
بقيت هذه الحادثة المحادثة في مخيّلتي طيلة الوقت، لم أعي معناها لكنني أدركت فحواها الذي رافقني وشكل جزء من شخصيتي وجانباَ من روحي. ويبدو أن مشروعي في الحياة قد بدأ في ذلك اليوم لتتبلور رسالتي وتتطوّر فيضاف إليها أفكار ومعانِ أخرى تتجلّى كل عام في نفس الموعد 15 أيار بين (النكبة، الميلاد والتعويض).... ثلاثة أسماء لمفاهيم عمقها عمق التاريخ من الأزل إلى الأبد، وكلّي ثقة أنّني بحجم مسئولية هذه الرسالة، والّا لما ولدت في هذا التاريخ تحديداَ وفي الذكرى العشرين عينياَ.
طالما كان والدي يصحبني معه إلى الناصرة، وكان لمكتبة الشعب نصيب هام في زيارتنا، كنا نشتري عدداً من كل الصحف العبرية والعربية التي تفترش حيزاَ واسعاَ في مدخل المكتبة، وكنت أسأله ألا تكفي صحيفة أو اثنتان ما دامت الأخبار المنشورة هي ذاتها!؟ ليأتي الجواب :- "صحيح أنّ الأخبار هي ذاتها، لكن الطّرح والسّرد، التفاصيل ونقطة الانطلاق مختلفة باختلاف موقف الصحيفة ومديرها من الحدث والقضية بما يتناسب مع انتمائه السياسي". في البيت يختار خبراًَ معيناَ نقرأه من كل الصحف باللغتين محلّلاَ وشارحاَ لي الفرق والفارق وكيف ينعكسان كجمل ومقولات انطلاقا من خلفية الصحيفة. وانتقل هذا النهج لنشرات الأخبار الإذاعية والمتلفزة بعد ذلك متحولاَ إلى نهج توعوي وفكري لا زال يرافقني بل وأصبح جزء من شخصيتي.
هكذا ومن هنا بدأ وعيي السياسي والفكري، الإنساني والاجتماعي بالتشكل والتبلور لأصبح على ما أنا عليه، لا أقبل بالأمور كمسلّم بها مهما كبرت أو صغرت، فلا بدّ من التّحليل والتّفسير كمحاولة لأفهم تماماَ، وحيث لم أنجح كان أبي هو العنوان لشرح كُنهِ الأمور وحقيقتها التاريخية والجغرافية فيتسنى لي الإدراك انطلاقا من المعرفة والتعمق.
تبلورت علاقتي بأبي لتصبح مميزة لا تشبه أية علاقة أخرى... فهو الأب المدلّل الذي يراني تعويضاَ بكل معاني الكلمة الجميلة، هو المعلّم والأستاذ، هو العبقري الذكي ومن يطلق عليه في القرية موسوعة متنقلة لغزارة معلوماته وصدق كلماته وسرعة بديهته إضافة لخفة ظلّه، ابتسامته ووسامة وجهه المطعم بعينين من لوز وسكر. كان مرجعاَ لكل طالب جامعي أو أستاذ أو كاتب في القرية والجليل لكل سؤال في كل المجالات التاريخية والمعرفية ناهيك عن اللغة والجغرافيا، مستعيناَ بكنز معلوماته الهائلة التي تضيف بعداَ ومعلومات قيّمة تفرّد هو بمعرفتها وحفظها، وكمثقف حقيقي اهتم بمشاركتها مع كل من رغب بالمعرفة.
هكذا بدأت علاقتي بوالدي كمثلي الأعلى ومصدر معلوماتي إضافة لكونه أبي الغالي رمز الحنان والأمان الذي أعطى صوتي قوةً وطول قامتي سنداً أجابه به الصعوبات والظلم. وبالتالي لم أرضى يوماَ أن يكون غير ذلك، ولم أتقبل أي تصرف من قبله لا يليق بهذه المعايير الراقية الخالصة وطالما دخلت معه في نقاشات طويلة مبنية على الفكر والمصداقية كما عوّدني هو وكما علّمني منذ نعومة أظفاري، الصدق وقول الحقيقة هو الأهم، الدفاع عن المظلوم هو الأسمى، الحفاظ على الكرامة هو الأعمق، الاحترام هو الأفضل. غرس فيّ ضرورة أن يكون لي موقف ورأي ازاء ما يدور حولي قائلاً: " إياك والتعامل مع الأمور والأشخاص كما المواقف من منطلق (فخار يكسّر بعضه) أو (حايد عن ظهري بسيطة) فإنها من أخطر الجمل القادرة على تدمير مجتمعنا وبنيته الأسرية كما مبادئنا الجميلة، ولطالما قال "الساكت عن الحق شيطان أحرس" كلما رأى النّفاق السياسي والاجتماعي.
وصوتي يصل للجميع انطلاقا من هذه المبادئ التي زرعها فيّ أبي لتغذيها أمي وتنمّيها في قلبي، أمي زهرة الكاميليا في حياتنا، قد وصفها أبي بملاكٍ يمشي على الأرض، الفنانة المبدعة، الإنسانة الراقية قلباَ وقالباَ، الوادعة الهادئة التي تحمّلت تداعيات النكبة وإسقاطاتها، المضحّية المتفانية بصمت وشمم، الحنونة المعطاءة بمحبة لا حدود لها، أمي المرأة الشامخة التي زرعت فينا الكرامة، عزة النّفس وحب الأرض، هي الأذن المصغية لكل ذكريات ، مجزرة عيلبون، مقتل والده والرّجال على يد الصّهاينة، التهجير مشياً الى لبنان، المعاناة ورحلة العودة الحلوة المرّة، تذكّرها بتفاصيلها رغم سني عمره الثمانية الغضّة و تحدّث عنها حتى اّخر يوم في حياته. كان أبي مرجعاَ لمن اهتم بمعرفة الحكاية وكل من رغب بتوثيقها أيضاَ، فالأستاذ فضل ابن الشهيد نعيم غنطوس زريق هو العنوان الأول، وقد قصده العديد من الاعلاميين الأجانب ليتعرفوا على الحقيقة ممن عايشها طفلاً وكابد معاناتها.
رغم كل الأسى نجح والدي كما نجح معظم أهل عيلبون في الموازنة بين الماضي والحاضر على أمل الحصول على مستقبل أفضل وأجمل، نجح بتغذية وعينا الوطني وانتمائنا القومي ولم يوفّر أبي وأمي جهداَ يوماَ في تنمية هذا الوعي والانتماء بالشكل السليم والمتزن وزرعا المبادئ والأخلاق في نفوسنا، أمي امرأة واعية وانتماؤها الوطني كبير، فليست ابنة عائلة شيوعية حتى النّخاع فقط بل إنّها ابنة أوّل من أدخل الشّيوعيّة للقرية بناءً عليه عانى أعمامها ودفعوا ثمن مواقفهم الشيوعيّة كثيراً ليصل ذلك القمّة بعد النّكبة بسنوات قليلة حين حُرِق أخوهم سهيل حياً ففارق الحياة بأبشع صورة جرّاء جريمة نكراء تمّ ارتكابها للتخلّص من أخيه الأكبر في عقر داره ذهب هو ضحيّتها.
ها هو الخامس عشر من أيّار يعود مجدّداً بدون وجود أبي الذي مدّني بالقوة والمغزى الحقيقي لولادتي بهذا التاريخ، أبي قد رحل وكانت نهاية هذا الرجل الشّجاع الذي أحجم عن السفر خارج البلاد أو المشاركة برحلة داخليّة لأكثر من يوم واحد، الرّافض للنوم عند أقاربنا خارج القرية مصرّاَ على العودة إلى عيلبون في ذات اليوم قائلا:-
"بقدرش أغفل ولا تغمّض عيوني برّيّة عيلبون" ، طالما خاف الابتعاد عن القرية فيموت خارجها. يعود هذا التاريخ مدجّجاً هذا العام بألم الذّكرى الأولى لوفاة والدي الذي شاء واختار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ببيت رندته في حيفا وليس في عيلبون. وهكذا قرّر أبي أن يضيف لمثلث معاني رسالتي بالحياة (ولادة، نكبة، تعويض) ضلعاً اضافيّاً ومعنىً جديداً هو (الفقدان ) فيتحوّل الشكل الى مربّع قد تسهل الحركة فيه وقد تتعقّد، رحل أبي وأخذ معه صوتي القوي، وقصُرت قامتي من بعده لكنها لن تنحني ولن أسمح للمنتفعين باستغلال المرحلة.
ترى ما حكمة أبي من ذلك؟ ما حكمة القدر أو القدير؟
أتراه أرادني أن أغلق الدائرة وأضع جانباً النكبة وتداعياتها ولو لحين ادراكاً منه لمدى تأثيرها على يوميات حياتي؟! أم تراه قصد فتح الدائرة من جديد من خلال حسرة ووجع فقدان الأب كي لا أنسى أو أتناسى عهداً ووعداً قطعته على نفسي بأن أوثّق تاريخ عيلبون ومأساتها، مقتل جدي نعيم والرجال، تهجير القرية الى لبنان، عودتهم ومعاناتهم المقدّسة؟! والأهم أنني الابنة البكر ومكانتي عالية وغالية في العائلة؟
[email protected]