في البداية قالوا الفيروس موجود في الصين، فقلنا ما دام بعيدة فلا خوف ولا تخمين، واصلنا حياتنا كالمعتاد واحنا مش فاهمين، ناس ماشي عالشمال وناس عاليمين، الى أن وقعت الواقعة وأصابت إسرائيل وفلسطين، فتنادت الحكومات للتعاون ومد يد الدعم للمواطنين، وتناسى الطرفان جوهر النزاع وبات التعاون بينهما شعار الوقت والحين، التقيا لصد الوباء عن العفولة وجنين، وصار عنوان المرحلة لا صوت يعلو على صوت "النصر على كوفيد اللعين".
وبعدما وصلتنا الجائحة كما أسمتها منظمة الصحة العالمية، دخلنا في حيرة ماذا عساها تكون وهل لنا أن نتصرف بعقلانية، ونمتنع عن المصافحة والقبل الأخوية، أم نرفض التخلي عن عاداتنا وعلاقاتنا العاطفية؟ واستصعب البعض منا المجالسة على بعد وعدم المشاركة في التعزية العائلية، حتى ألزمتنا السلطات وقيدت علينا الحرية، واستدعت الشرطة لضبط الفوضى وتغريم الفوضوية، فدخلنا بيوتنا وانقطعنا عن صلة الرحم الشرعية.
انقلبت حياتنا وترتبت على عكس هوانا.. بعدما عمت وانتشرت الكورونا. صارت المصافحة ممنوعة والقبل محظورة والتجاور قنبلة موقوتة. لم يعد هناك خروج للزيارة، كما منع التجمهر في السيارة. ودور السينما والمطاعم والقاعات باتت مهجورة، وعاد الوزن للحوانيت الصغيرة وصارت خدماتها موفورة، والشراء أضحى بالهواتف والمراسلة الموجودة، واختبأ الجميع في بيوت موصودة، يترقبون الأخبار من ساعة لساعة، وينتظرون كل ليلة أوامر جديدة.
وعلى صعيد السياسة وألاعيبها السحرية، جاءته الجائحة فرصة ذهبية. وبدل أن يدخل السجن لوحده أدخل البلاد في سجون جماعية. وحمل الساحر عصاه يلوح بها بحركات بهلوانية. مرة يقول لغريمه تعال لنعمل حكومة طواريء ومرة "وحدة وطنية"، والغريم الساذج الأبله سار وراءه "مضبوعا" بأفكار خيالية، وهيأ له أنه سيصبح حاكما بأمره بعدما تسلم عصا التركيبة الحكومية، لكنه أطرش في زفة ولا يتقن في اللعب خفة رياضية، وظنّ أن بامكانه تخويف "التنين" بحركة سينمائية، فقال له دعك من حركاتك وإلا كانت الضربة الفنية القاضية. وعاد الجنرال طائعا الى مكانه بذريعة الجائحة الجهنمية، وانضوى في عبّ الساحر يسهر ويرقب العصا السحرية.
وكأن كل ذلك لا يكفينا، وشاهدنا ما لم يخطر من تفانينا.. كل من لديه كلمة أو صورة، بدعة أو طرفة أو حكمة مأثورة، وكل من خطرت له خاطرة مبتورة، أو سمع هراء حوله الى أسطورة، وكثر الفاهمون بالطب والأدوية المسحورة، فهذا مختص وذاك ضليع وتلك في أنواع العلاج خبيرة، وهذا يحاضر علينا من غرفته وذاك يقدم النصائح وتلك تخبرنا باكتشاف أدوية وذخيرة، وكل قصة نسمعها ننشرها دون احتكام للبصيرة. والناس تنقسم بين مستنكر ومؤيد، ويزيد الخلاف وتبادل التهم دون التحقق من الصورة. وحصل الاختلاف بين الجمعيات والتنظيمات، بعدما وصلت طرود الأغذية المكسورة. هذا يدعي وذاك يعلن وثالث عالسوشيال ميديا، يتسابقون في التصريحات وللظهور أمام الكاميرا. كل يباهي ويفاخر بدوره، غير آبه لسرية العطاء والتفاني المغمورة.
وباغتتنا المناسبات والأعياد، فأغلقت القاعات والمعابد. وفرغت الكنس والخلوات والكنائس والمساجد، وغاب عنها المصلون في الحجر باقون أباعد. وغابت الفرحة عن وجوه الأطفال، الذين احتجزوا في سجن بدون حبال، فلا جد يلاعبهم ولا جدة تلاطفهم، لا أعمام ولا أخوال. والكل يتمنى أن تزول الشدة وتتبدل الأحوال، لكن مع الدعاء والصلاة نحتاج الى قليل من القطران الفعّال. فهل لن أن نعتبر أم سنبقى سائرين في ضلال؟!
[email protected]