لا يختلف عاقلان بأنّ ظاهرة العملاء في صفوف الشعب العربيّ الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة المحتلّة وقطاع غزة باتت خطيرةً للغاية، لا بلْ يُمكن اعتبارها أنها وصلت إلى حدّ الوباء في المجتمع الفلسطينيّ، والتصفيات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيليّ لرموز المقاومة، تؤكد على أنّ الخونة والعملاء تمكّنوا بقدرةٍ غيرُ قادرٍ على اقتحام الدوائر المغلقة وتزويد مخابرات دولة الاحتلال بمعلومات تُمكنها من تنفيذ جرائمها.
***
سُقت هذه المُقدّمة بعد أنْ انتهيت من مطالعة كتابٍ جديدٍ صدر مؤخرًا باللغة العبرية لمؤلفه د. هيلل كوهين، مستشرق يُدّرس موضوعيْ الإسلام والشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس. الكتاب الذي يحمل عنوان جيش الظل: عملاء فلسطينيون في خدمة الصهيونية، هو كتاب مثير للغاية، ليس من ناحية السرد، إنمّا بسبب الجرأة التي يعالج فيها المؤلّف، وهو بالمناسبة محسوب على ما يُسّمي باليسار الإسرائيليّ الصهيونيّ، موضوع العملاء، حيث يتطرق إلى الفترة الواقعة بين العام 1917 وحتى النكبة المنكودة عام 1948. وللتنويه فقط، نُشدّد في هذا السياق على أنّ المؤلف هو صهيونيّ بامتياز، وهدفه الأسمى هو شيطنة الشعب الفلسطينيّ من ناحية، ومن الناحية الأخرى، فإنّ كتابه جاء لتعزيز وتكريس الرواية الإسرائيليّة حول ما حدث، مع ذلك يجب التوقف عند هذا الكتاب والمعلومات التي وردت فيه، وعدم الاكتفاء بدحض ما جاء فيه بصورةٍ عاطفيةٍ، إذ أننّا على قناعةٍ تامّةٍ بأنّه من منطلق المسؤوليّة الوطنيّة يجب التعامل مع الكتاب بنظرة علميّةٍ وعمليةٍ والرد عليه بأسرع وقتٍ ممكنٍ، لأنّه في المحصلة العامّة يُوجّه اتهامات خطيرة للفلسطينيين حيث يقول إنّ آلاف الفلسطينيين كانوا وما زالوا عملاء للحركة الصهيونيّة منذ بداية القرن العشرين، منهم سماسرة الأرض وعملاء سريون، تجار أسلحة ومنفذّو عمليات قتل مدفوعة الأجر (مرتزقة)، سياسيون رفيعو المستوي، قرويون عاديون، قيادات عماليّة ومحاربون وآخرون، ويخلص الكاتب إلى القول إنّ هؤلاء كانوا بمثابة الطبق الذهبيّ الذي قامت عليه الدولة العبرية، مُشيرًا إلى أنّ نشاطاتهم كان لها تأثير مركزيّ على قدرة إسرائيل العسكريّة والمخابراتية، وعلى خريطة الاستيطان، وعلى ترسيم حدود الدولة اليهودية، ويُشدّد كوهين على أنّه عندما بدأت ما يُطلق عليها الحرب المصيريّة في العام 1948 كانت الشرذمة سيّدة الموقف لدى الفلسطينيين، ولا رغبة لديهم في القتال، وعليه جاءت الضربة الإسرائيليّة القاصمة، النكبة.
***
ويُتابع المؤلّف، أو بالأحرى يزعم، بأنّ الكتاب يعتمد علي آلاف الوثائق التي ما زالت حتى يومنا هذا سريّة للغاية، ولكنّه لا يُفصح لنا كيف وصل إليها واعتمد عليها، هذا التنويه من طرفه، باعتقادنا المُتواضع، يُثبت أنّ وراء الأكمة ما وراءها. على أيّة حال، المثير في الكتاب أنّه يُورد أسماء عشرات العائلات الفلسطينيّة من سكان فلسطين التاريخيّة، الذين تعاملوا مع الحركة الصهيونيّة وقدّموا لها الخدمات المختلفة من بيع الأراضي وحتى التآمر علي أبناء شعبهم. لا نريد في هذا السياق أنْ نتطرّق لأسماء العائلات والأشخاص والشخصيات الذين وردت أسماؤهم وأفعالهم في الكتاب، لأننّا إذا قُمنا بذلك سنخدم من حيث لا ندري الرواية الإسرائيليّة الرسميّة حول ما حدث. من هنا نعتقد أنّ مراكز الأبحاث الفلسطينيّة في الوطن والشتات ملزمة بمعاينة الكتاب بعيدًا عن العواطف والردّ عليه ومحاولة دحض ما جاء فيه، ذلك لأنّ تجربتنا المريرة مع الحركة الصهيونيّة وموبقاتها تقودنا إلى التفكير بأنّ الإسرائيليين سيقومون بترجمته إلى لغات عديدة، وعلى الأغلب إلى اللغة العربيّة، بهدف تسويق روايتهم الكاذبة حول اغتصاب فلسطين وإقناع الرأي العام العالميّ بأنّ الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم وبلادهم ووطنهم، كما فعلوا عندما أقنعوا العالم بروايتهم المزيفّة بأنّ فلسطين هي أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرضٍ. نقولها بصراحة متناهية: لا يكفي القول إنّ الكتاب هو كتاب صهيونيّ لمؤلفٍ مستشرقٍ يُحاول الطعن والتشهير والتجريح والإحراج ودقّ الأسافين، ولا يكفي أيضًا أنْ نعفي أنفسنا من الرد عليه بالقول إنّه كتاب آخر هدفه خدمة الصهيونيّة وأجنداتها المُعادية لنا قولاً وفعلاً، علينا كأبناء هذا الشعب مقاومة هذه الرواية الإسرائيليّة وردّ الصاع صاعين، ولكن بنفس الطريقة التي تعامل بها المؤلف مع الكتاب، وإذا تبينّ لنا أنّ عائلة فلان أوْ عائلة علان قامت فعلاً ببيع الأراضي، وقدّمت عائلة أخرى خدمات مختلفة للحركة الصهيونيّة، علينا التعامل معها وأنْ نذبح البقر المُقدّس، وألّا نتورّع عن فضح هذه العائلات والقيادات. من ناحية أخرى، فإننّا ملزمون بتقديم لائحة دفاع علميّة للرد على لائحة الاتهام التي قدّمها الكاتب الإسرائيليّ ضدّنا، وذلك لردّ الاعتبار للعائلات التي ذُكرت في الكتاب.
****
ليس هذا فحسب، نقول للأسف الشديد إنّ عدم معالجة ظاهرة العملاء علي اختلاف أنواعهم ستؤدي في نهاية المطاف إلى استفحال الظاهرة أكثر وأكثر، علينا تدارك الأمور واستباق الأحداث لكي لا نندم حين لا ينفع الندم، لأنّ مَنْ باع حبّة تراب من ارض فلسطين الغالية للحركة الصهيونيّة هو اخطر بكثير من العميل الذي يُقدّم المعلومات عن تحركات المُقاومين والمُجاهدين الفلسطينيين تمهيدًا لتصفيتهم، لأنّ الأرض التي بيعت لا يُمكن استرجاعها، أمّا النشطاء الذين انضّموا إلى قافلة شهداء فلسطين فشعبنا اثبت، وملحمة غزّة الأخيرة أكبر برهان على ذلك، أثبت أنّه يملك القدرات والطاقات والخامات للنهوض وإيجاد قيادات بديلة لمواصلة النضال من اجل التحرر وإقامة الدولة الفلسطينيّة العلمانيّة الديمقراطيّة وعاصمتها القدس. وعلينا التذكّر والتذكير بأنّ معركة الشعب الفلسطينيّ مع الحركة الصهيونيّة، وصنيعتها إسرائيل، لا تقتصر على ساحة القتال فقط. وغنيٌ عن القول إنّ القانون الفلسطينيّ المُتعارف عليه والمعمول به، ينصّ على إعدام كلّ مَنْ يقوم ببيع أرضٍ لليهود، ولكن لأسباب نجهلها، فقد امتنع رئيس سلطة أوسلو-ستان، محمود عبّاس، عن تنفيذ قرارات الإعدام منذ استحواذه على رئاسة السلطة في العام 2004.
[email protected]