اليوم الخامس والعشرون من آذار من العامِ ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعينَ وستّةٍ بعد الميلاد، انها ساعات ما بعد الظهر.. قرار اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية كان قد صدر، ويقضي باعلان الاضراب العام للجماهير العربية في يوم الثلاثين من آذار. أما اليوم فهو موعد اجتماع اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، في قاعة بلدية شفاعمرو. الأجواء متوترة، فهناك أحاديث وأقاويل كثيرة عن عدد من الرؤساء ممن وقعوا تحت ضغوط سلطوية، ووقّعوا على قرار بمعارضة الاضراب. مسؤول أمني كبير يتواجد في مركز الشرطة في شفاعمرو، يتابع وقائع الاجتماع ويعطي التعليمات عبر خط هاتفي مباشر مع دار البلدية. هناك مؤامرة تطبخ داخل الجدران. محاولات ضغط على بعض الرؤساء لثنيهم عن رأيهم بتأييد الاضراب. الجماهير من أهل البلد بدأت تتوافد وتتجمع خارج القاعة في محاولة شعبية لدعم الرؤساء المؤيدين للاضراب، ولدعوة الرؤساء المترددين لعدم الخوف ومدّهم بالشجاعة والدعم المعنوي. الأجواء تلتهب، قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود تتمترس وكأنها تستعد لجولة من المعارك. أفراد من الشرطة يتمركزون على سطوح بنايات البلدية، فرقة هنا، فرقة هناك، رجال الشرطة يحملون الهراوات بيد والدروع باليد الأخرى، وعلى رؤوسهم الخوذ الواقية.
يبدأ اجتماع رؤساء السلطات المحلية العربية، أعداد الجماهير تزداد تباعا، الشرطة تزيد من قواتها وانتشارها في الزوايا، ممثلو الهيئات الشعبية يعملون على تنظيم دور الجماهير المتدفقة الى ساحة البلدية ومحيطها، وقسم من تلك الجماهير يتموقع مقابل القاعة، حيث يمكنه متابعة وقائع الاجتماع عبر الواجهة الزجاجية. على ما يبدو فان أجواء التوتر تتعالى، أشخاص يدخلون الى ويخرجون من القاعة. أحد الأشخاص يقترب من أحد الرؤساء ويهمس في أذنه. يقف أحد الرؤساء ويسفر عن وجهه الحقيقي وبالأحرى وجه أسياده الذين أعطوه الأوامر. يتصدى له رئيس بلدية الناصرة، المناضل توفيق زياد. يحتد النقاش في الداخل. الجمهور يتابع، يشاهد الحركات لكنه لا يسمع النقاش الحاد. لكن الأمور باتت واضحة للجماهير وتنطلق الهتافات عالية: "بالروح بالدم نفديك يا جليل". "لا تهويد ولا تشريد، عن أراضينا ما بنحيد". درجة التوتر ترتفع بسرعة، أفراد الشرطة يتطاير الشرر من عيونهم. الجماهير تواصل الهتاف وتدعم توفيق زياد، بوقفته في مواجهة الرؤساء الخنوعين والمتعاونين مع السلطة.
وبشكل فجائي يخرج الرؤساء من القاعة، دون أن يتخذوا قرارا واضحا. لكن القرار بات ملك الجماهير، والجماهير أعلنت الاضراب وتريد انجاحه. الغضب يتعالى. الجماهير الغاضبة تقترب من سيارات الرؤساء المتخاذلين، ويهتفون بوجههم هتافات الغضب الساطع، ولا ينقذهم من غضب الجماهير سوى الشرطة. يلوذ الرؤساء هربا ويتوارون عن الجماهير الغاضبة، دون أن يجرأوا على مواجهة صرخة الجماهير العادلة. وهنا شنت الشرطة ومعها قوات حرس الحدود التي استحضرت لهذه المهمة، هجومها الوحشي والمباغت، ثبتوا الأقنعة الواقية على وجوههم، وبالهراوات في أيديهم "عليهم"، تفرق المتظاهرون بسرعة، لكن الى مواقع أفضل، الشرطة تطارد الشباب في شوارع البلدة، مستعينة بالقنابل المسيلة للدموع. وجاء الرد الجماهيري بوابل من الحجارة على رؤوس عناصر الشرطة. المطاردة تستمر وساحة المعركة تنتقل الى الأحياء الداخلية، الى السوق والأزقة، وهنا تتوقف الشرطة خشية الدخول الى الفخ.
مهما بلغوا من قوة وبطش، لكنهم أمام التصدي المنيع تراجعوا يلملمون أطراف خيبتهم. لكن هل ينام السلطان مهزوما، لا بد له أن يسجل نصرا وهميا. وبقوة السلطة وأدواتها لجأوا الى حملة اعتقالات لترهيب الجماهير، فكان الرد المزيد من الصمود والتحدي ورص الصفوف.. وكان الثلاثين من آذار وجن جنون السلطة، اضراب الجماهير العربية ينجح، فصدرت الأوامر بالدخول الى البلدات والقرى العربية لكسر الاضراب.. لكن هيهات.
[email protected]