عودوا إلى الرب فتنجوا وتخلصوا ... بقلم سيادة المطران عطالله حنّا رئيس اساقفة سبسطية للروم الارثوذكس
رفعنا خشبة الصليب الأحد الماضي في كنيسة القيامة في القدس، في القبر المقدّس ابتغاء مشاهدة قيامته والتماسها، وقلنا "خلّص يا رب شعيك وبارك ميراثك وامنح عبيدك المؤمنين الغلبة على الشرير واحفظ بقوّة صليبك جميع المختصين بك"، ثم سجدنا وقلنا: "لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك المقدّسة نمجّد"، وفهمنا دلّ دومًا بأنّه بالصليب قد أتى الفرح لكلّ العالم". جاء سجودنا للصليب المحييي، وصليب الفيروس العبثيّ مقتحم لحياتنا، ليومياتنا، يفترس إنسانيتنا، ينتشر في أجسادنا، يخرق عظامنا، ويحوّل عالمنا إلى نظام فوضويّ عبثيّ. الآلام منغرسة في لحومنا، تقتات من فرحنا، فيؤول كلّ شيء إلى أوجاع وأحزان صارخة. ماذا لو قارنّا تلك الأوجاع والأحزان بجراح المسيح وأوجاعه وقد ذاق مرارتها على الصليب؟ من هذه الناحية لن ولا تسوغ المقارنة، ذلك أنّ السيّد المبارك حمل عاهاتنا، وعليه أدب سلامتنا، سيق كالحمل الوديع إلى الذبح، ولم يفتح فاه بالمكر، لا بهاء له ولا جمال يرى، تمثّل في جسده وجع الكون، بل قل وجع الخطيئة حتى لا نعود نستعبد للخطيئة، وحتّى لا يبتلعنا الموت من بعد. قد يسأل سائل، لماذا بتنا أسرى بيوتنا، وفي مناطق ودول عديدة نرى نعوشًا خشبيّة تنبسط إمّا لدفنها أو حرقها مع الجثث داخلها؟ لماذا فجأة دخلنا في هذه الآلام المبرحة وتجمّد الكون كلّه، وتساوى الجميع في هذه المصيبة الكونيّة الكبرى؟ قد يقول بعضهم هذا امتحان بإمكاننا القبول به لتحطيم كبريائنا والسعي إلى توبتنا وإعادة المحبة فيما بيننا، ولكي نفهم قيمة الله فينا. ليس البحث محصورًا حول ما إذا كان الكورونا فيروس أو الكوفيد 19 مصنعًا ومفبركًا أو لا، ولنا رأينا بذلك، البحث الآن يفترض أن يستجمع عباراته حول فكرة جوهريّة، ما هي قيمة الإنسان بكلّ ما تفرضه من معاني ووجود وحضور أمام ما نعته صديقي الحبيب المفكر جورج عبيد "بإله الموت" وقد عنى به الكورونا فيروس، وهو غير مدرك وغير منظور وقد هيمن على الحياة والوجود زارعًا في أوساطنا الهلع والخوف؟ أين هي قيمة الإنسان المختبئ في أقطار العالم في البيوت، أو المصاب بهذا الداء، ألا يستدعي هذا المشهد على الأقل من الناس المزيد من التأمّل والتبصّر والتفكير للوصول إلى أجوبة شافية على كلّ الصعد السياسيّة والاقتصادية والماليّة والروحيّة والدينيّة والثقافيّة والفكريّة، ألا يقتضي هذا المشهد من النخب الواعية، من المفكرين واللاهوتيين والفلاسفة والأطباء الإجابة على هذا السؤال وتحليل هذا المشهد؟ ألا تدلّ الإجراءات المتخذة عند العديد من الدول الموبوءة ونحن معها إلى عجز كبير مستمدّ من عنصر المباغتة القائم في جوهر الكوفيد 19 أو "إله الموت"، هل هو إله الموت بعينه، واين امست، بالتالي علاقتنا بالله تعالى بالمعنى العموديّ الساميّ وبعلاقتنا ببعضنا البعض بالمعنى الأفقيّ، وماذا سيكون وضعنا في المراحل المقبلة؟ لا يمكن لأحد إغفال تلك التساؤلات البتّة، وجميعنا نحتاج لتعزية ورجاء في هذا الزمن الصعب والرديء. والعزاء ياتي من قوّة الإيمان ومتانة المحبة فيما بيننا، لكوننا قد فهمنا بأن لا قيمة لأي امرئ إلاّ بالله المبارك وبكلّ الإخوة. إنّ إغفال التساؤلات سقوط مريع لقيمنا وحقيقتنا وترثنا الإيمانيّ وإيغال في الوحول المتحرّكة، الناتجة من وحل التاريخ، وسيؤدّي إمّا إلى الاختناق حتى الموت أو إلى ديمومة العجز، ذلك أنّ تحديد الإجابات بالمعايير والمضامين، يحدد قيم المواجهة لهذا الوباء ومعالمها ومعانيها، وقد تتحوّل إلى أعمدة راسخة عليها يبنى عالم جديد عابد ونفيّ. لقد بتّ مقتنعًا ومن دون التباس بأن المحطّة الأولى للتغيير عنوانها التوبة الحقيقيّة والكاملة. لقد بات لزامًا علينا الاعتراف بآثامنا وضلالنا، بكبريائنا وعدم إحساسنا مع الآخرين، لقد بات لزامًا علينا الاعتراف بأننا قد غرقنا في خطايانا وبطرنا وسكرنا حتى الانطفاء، ولم نعد نملك إحساسًا إنسانيًّا شفيفًا رقيقًا يدني واحدنا إلى الآخر، بيقين مطلق بأن الآخر أيقونة الله في الوجود. لقد استبدّت بنا المصالح، فغزلنا علاقاتنا بمنظومة مصالح مالية واقتصادية وسلطويّة، وسبكناها وشبكناها بالمال والسلطة والجنس، وسكبنا معانيها السوداء في أوعية الوجود ليبطل الوجود من معاني القيم السامية التي يسكنها الله. يقول بولس الرسول: إنّ أجرة الخطيئة هي الموت. لقد توغّلنا كثيرًا في لجج الخطايا وغرقنا في وحولها وسكرنا بخمرها وبطرنا بأموالها حتى الثمالة حتى العمى. لقد تمركز عالمنا على الرأسمالية المتوحّشة والمفترسة للفقراء والضعاف واستطبناها باللباس والطعام والشراب، بالأعراس بكلّ شيء من المقتنيات إلى المجد الباطل، وغرسناها في أنظمتنا فبات المال هو الملاذ وليس الله، وأمسى الإنسان وسيلة وليس الغاية. وعلى اسمها احتلت دول أخرى، وشعوب استباحت شعوبًا اخرى، ألم تنشأ قضيتنا الفلسطينيّة من استباحة إسرائيل لنا، ومن إهمالنا أيضًا لمعاني وجودنا، ومن صراع العرب فيما بينهم وتمزقهم الناتج من عمالاتهم، ألم تنشأ الحرب في لبنان الحبيب، لأنّ الأمم تآمروا عليه، وبلغ التآمر ذروته بالحرب الماليّة التي شنّت عليه الآن، أليس جزءًا من التآمر ناتج لأنّ اللبنانيين قد تمزّقوا فيما بينهم تمزّقًا رهيبًا، وبعضهم غير منتم، بسبب العمالة والعمولة، إلى بلده ومؤمن بدولته ولم يسعَ إلى تجديدها. وعلى الرغم من ذلك فالمتآمرون لن يستطيعوا إكمال سعيهم الدنيء، لأن في لبنان عهدًا قويًّا ومتينًا وحكومة متماسكة تعمل وهنالك شريحة كبيرة من اللبنانيين الوطنيين الذين يدافعون عن بلدهم ويتصدون للمؤامرات التي تستهدفهم ؟ ألم يحاول المتآمرون زرع هذه الرؤية في سوريا الحبيبة، وقد تبيّن بأنّ المؤامرة قد فتحت على مصراعيها لتمزيق النسيج فيها وإسقاطها فلم يستطيعوا لأنّ فيها رئيسًا يقاوم بالحقّ وقد استعاد بلده بقوّة هذا الحقّ عينًا؟ ألم يحاولوا جذب العراق إلى انقسام مذهبيّ خطير وقد هجّروا المسيحيين من أراضيهم فباتوا في غربة، هلاّ تذكرنا مأساة جبل سنجار التي لا تزال ماثلة في أذهاننا... وما معنى صفقة القرن المبرمة، ألا تعني نهاية لفلسطين والأردن معًا ومحاولة لخلق نظام جديد يؤمّن مصالح أميركا وإسرائيل على حساب كرامتنا معًا؟ ولكن فلسطين لن تستسلم للمؤامرات المشبوهة وسيبقى الفلسطينيون يدافعون عن وطنهم وقضيتهم العادلة حتى يعود الحق السليب الى اصحابه . هذا السرد المشبع بالتساؤلات، للتدليل والتأكيد على ما بلغنا إليه، وبأن كلّ هذه العناوين أسباب موجبة وحقيقيّة لما وصلنا نحوه. أنظروا من حولكم تروا بأن المتآمرين والمتآمر عليهم قد تساووا في الخوف من الفيروس، أنظروا من حولكم تكتشفوا بأن الخيانة قد أذابها الخوف والخونة منزوون مثلهم مثل كلّ الخاشين، الهيكل الكونيّ سقط الأنظمة انتهت البنية كلّها تهدّمت وقربت من الرماد، الكلّ ظلّ وهباء. العالم رماد... وماذا بعد؟ إلى ما يحفزّنا هذا الأمر؟ يحفزّنا ذلك، إلى أن نفهم بأن نصرخ للرب يسوع بأن يبسط رحمته على الذين يعرفونه بالحبّ والعدل والسلام، بالإيمان الحقّ بالصلاح. لقد آن الوقت لتغيير نهج حياتنا بالكليّة ونتحوّل إلى التوبة الحقيقيّة. في إيطاليا ومن بعد تعاظم أعداد الوفيات والإصابات وبعد عجز يسير من استيعابها رفع الحكام والشعب قلوبهم وعقولهم إلى ربّ السماء ملتمسين منه رحمة، قداسة البابا فرنسيس العاشر دعا الجميع إلى وقفة صلاة واحدة للخلاص من سلطنة الفيروس على حياة الشعوب، حاكم ولاية تكساس في أميركا صرخ بدموع مدرارة قائلاً: "إغفر لنا يا رب خطايا الزواج المثليّ، حذفناك من كتبنا الدراسيّة، رفضنا ذكر تعاليم الإنجيل، نفكّر في حذف اسمك على الدولار سامحنا على إقرار قانون الإجهاض لذلك فإننا إن خرجنا سالمين من هذا الوباء فهي الرحمة، وإن هلكنا فهو العدل الإلهيّ، فلنسكب أرواحنا في محضر الرب طالبين رحمته وغفرانه، إنّه وقت لطلب الرب." يحفّزنا ذلك لتحطيم أصنامنا وآلهتنا الكرتونيّة، "ليس عبد ولا حرّ، ليس يهوديّ ولا إسكيثيّ"، لقد غلبنا الفيروس وسيطر علينا وأغالق كنائسنا وعزل كل منزل عن الآخر، فلنغلبه بالإيمان الحقّ، بالرجاء الوطيد، فلنحبّ الرب بكلّ قلوبنا وعقولنا. الرب يسوع لا يخيف لأنه نبع الرحمة والحنان، الخطيئة تخيف، الجور والفاقة والظلم أعمال تخيف، وكلّ هذا من أفعال البشر والظروف السيّئة التي أوجدوها لأنفسهم. وماذا بعد؟ إعلموا بأننا قد تركنا الرب بممارساتنا بخلافاتنا بكبريائنا بحروبنا... لقد تركناه بعدم توطيد انتمائنا بكنيستنا بأوطاننا المشرقيّة ليكون الانتماء شهادة إيمان وصلاة على أرضنا، لقد تركناه لأننا ارتضينا بتلاشي قيمنا وتجفيف ينابيع إنسانيتنا وتخفيف وجودنا وتسخيف فكرنا وتسطيح ثقافتنا. الرب يسوع لن يتركنا في هذه المعركة الشرسة والقاتلة والكونيّة مع "إله الموت" أو مع هذا الكوفيد 19، أنا معكم فلا نخشوا أحدًا يقول الرب، لن يدعنا يتامى، لن يتركنا ثكلى، ولكن هل نحن معه؟ إنه معنا، معنا هو الله فاعلموا أيها الأمم وانهزموا لأنّ الله معنا، فهل نحن معه، لا تخف لأني معك يقول أشعياء فهل أنا معه؟ من منا مع الرب؟ هذه الحرب الكونيّة تحفزّنا للعودة إلى الرب، ليس خوفًا من الكورونا فيروس، بل لأننا نحبّ الرب من كل قلوبنا وعقولنا. إسمعوا ماذا قالت رابعة العدويّة تلك المتصوّفة العظيمة: أحبّك لا طمعًا بالجنة ولا خوفًا من النار"... تعالوا نحبّ الرب يسوع لأنه نبع الحبّ والرقّة والسلام والحنان، ولأنه الراعي الصالح الذي يعرف رعيّته وعلى رعيته أن تعرفه بالحبّ عينه، وليس أن ترفضه بالحقد والكراهية والبغض والرذل والعزل(إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله)، تعالوا نسجد أمام قدميه ونقول له يا رب أعن عدم إيماننا، يا الله ارحمنا نحن المذنبين إليك، وأعددنا لك أواني صالحة بل بشرًا جددًا، تعالوا نضمّه إلى قلوبنا وعقولنا ونحن نقترب من الأسبوع العظيم المقدّس، وفيه يتألم ويصلب ويموت ليقوم، ليوشحنا بالنور، واعلموا أنّه بدوره يتألم الآن كما تألّم فوق الجلجة بسبب خطايانا وليس بسبب هذا الفيروس، يتألم لأننا أهملناه وأهملنا أنفسنا وبعضنا، بل انفصلنا وتمزقنا، (تذكّروا إنجيل الدينونة)، واعلموا أيضًا بأنّه سينتصر بنا وبإيماننا به على هذا الفيروس الخطير والشرير كما انتصر بقيامته على سلطان الموت لأنه يحبنا ولا يؤثر موتنا. ليس من أسبوع عظيم مجرّد في التاريخ، نحن في هذا الاختبار البليغ نعيش الأسبوع العظيم بذروة مرارته وفيه سيمتحن الرب إيماننا وإخلاصنا ووفاءنا. وعلى هذا نحن متوثبون إلى بهاء القيامة ونصر المسيح في بشريتنا وكوننا بل في كونيّتنا. تفضّلوا يا ابناء الكنيسة، ويا أيها المسيحيون في الشرق والغرب، إلى وجه الرب الحبيب المسنود على صليبه الكريم المحيي والتمسوا منه قوّة وثباتًا. أتجهوا نحوه، عودوا إليه، وآمنوا به فتشفوا وتنجوا وتخلصوا.
القدس الشريف في 25/3/2020 |
[email protected]