مرت الهوية الوطنية لفلسطينيي الداخل في صراع مرير لإثبات الوجود في معركة غير متكافئة، فبعد النكبة واجهت احتلالًا بغيضًا استهدف الأرض والإنسان والرواية والتاريخ والمقدسات، منذ بدايته وحتى يومنا هذا.
منذ بداية الهجرة الصهيونية الثانية- كما يقول ايلان بابة- اعتبر المستوطن الصهيوني إلى الفلسطينيين على أنهم غير موجودين، أو أنهم كائنات غريبة لا ينبغي لها أن تكون أصلًا.. وأنهم مرتع الأوبئة، فهم محض معتدين ووجودهم
بالقرب من المستعمرات الصهيونية (وصمة عار) ووُصِفوا (بالإرهابيين) و (المخربين) و وُصفت القرى والمدن الفلسطينية على أنها مراكز لتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية وبؤر للأنشطة الإرهابية.
إن الرغبة في طرد الفلسطينيين من أجل أن تكون فلسطين جنة اليهود ومستقرهم الآمن كانت هي الرسالة الأوضح والأكثر ترددًا على ألسنة المستوطنين، وفي أثناء فترة الحكم العسكري كان يُستخدم مصطلح ( شر خبيث) في النقاشات التي كانت
تدور حول مستقبل الفلسطينيين في البلاد، وكانت فكرة طردهم واردة بشكل جدي ولا زالت الى يومنا هذا، وما قانون القومية عنا ببعيد. وفي سبعينيات القرن
الماضي أُشير إلى الفلسطيني على أنه( السرطان في قلب الأمة)، وفي وثيقةيسرائيل كينغ أحد أكبر المسؤولين في وزارة الداخلية عن المنطقة الشمالية إبان حكومة رابين (1974-1977) تعامل كينغ مع الفلسطينيين على أنهم مرض لا بد من استئصاله كي لا يضر ببقية الجسد السليم.
بعد حرب عام 1967 كان الإنتاج المعرفي في البلاد المتعلق بالفلسطيني مُنصَبًّا على مقولة (إعرف عدوك)، لذلك وُسم كل نشاط سياسي لا يتماشى مع المشروع الصهيوني- على أنه (إرهابي) وأن هذا الإرهاب مستمر منذ بداية المشروع الصهيوني.
إن وجود عربي فلسطيني صاحب وطن يكافح من أجل حقوقه هو أمر يناقض الرواية الصهيونية التي تصف الصهيوني بأنه مستضعف، لذلك كان لا بد من شيطنة الفلسطيني، وإبقائه تحت الرقابة والسيطرة بعد فترة الحكم العسكري. في
العام 1965- بحسب موقع (عيكفوت) اجتمع ممثلون عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وممثلون عن بعض الوزارات المعنية ووضعوا خطوطًا عريضة لسياسة الدولة تجاه العرب تلخصت: في منع قيام أحزاب على أساس قومي، ومنع تشكيل قيادة فكرية داخل المجتمع، فالعربي يجب أن يغرد داخل السرب ويكون جزءًا من اللعبة السياسية والمشروع الصهيوني.
لم تكن الدولة ثنائية القومية واردة في ذهنية التيار المركزي للحركة الصهيونية حينها، فالتوجه كان دائمًا أحادي القومية، فالمؤسسة تعتبرنا خارج نطاق المواطنة.
ي.بن بورات أحد الصقور الصهيونيين المعروفين قال: ( لا توجد صهيونية ولا استيطان ولا دولة يهودية دون إخلاء العرب ومصادرة أرضهم. شموئيل ديفون – مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية عام 1959 قال، الحكومة ترى بالعرب
جزءًا من العدو وهذا الجمهور يشكل خطرًا أمنيًا ووجوديًا على الدولة اليهودية ، لذلك ينبغي مراقبته وتحديد خطواته. ومن هنا يمكن فهم حقيقة التمييز العنصري الأيديولوجي الذي يمارس في العديد من القطاعات.
تسعى المؤسسة الاسرائيلية التي تعمل على ترسيخ المشروع الصهيوني ويهودية الدولة إلى فرض رؤية مشوهة للفلسطيني وتذويبه من خلال مشاريع صهيونية وعلى رأسها الكنيست مصنع القوانين العنصرية في حق الشعب الفلسطيني، فهناك من أبناء جلدتنا من بات يطرح مشروع المواطنة الكاملة والمساواة وما يسمى بالسلام العادل بحجة إحراج الإسرائيلي على حساب الهوية الوطنية والثوابت والرواية الفلسطينية.
تتعامل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع العربي من خلال مبدأ الرقابة والسيطرة، فأنت كعربي مشبوه وعدو، فلا يوجد فرق بين فترة الحكم العسكري وما بعدها، ويتأكد لنا ذلك من خلال عدة محطات تاريخية لتعامل المؤسسة معنا بدءًا من يوم
الأرض ومرورًا بهبة القدس والاقصى وصولًا إلى يومنا هذا، فالمؤسسة الإسرائيلية ترفض الاعتراف بنا كمجتمع وشعب له رواية وترفض الاعتراف بلجنة المتابعة العليا، وترفض أن تكون لنا استقلالية وخصوصية في التعليم وتسعى إلى تجهيل مجتمعنا من خلال جهاز التعليم، ولها يد في إفساد الحكم المحلي، وفي تعميق العائلية والفردانية وشبكات الإجرام داخل المجتمع. والتخطيط في هذه الدولة قائم على أساس أيديولوجي، فنحن طابور خامس وتهديد ديمغرافي وخطر أمني.
باتت هذه المؤسسة تخيّر العربي بين المواطنة المنقوصة والانتماء الوطني الفلسطيني. هذه المؤسسة باتت تبعث رسائل تهديد للمجتمع العربي من خلال عصابات تدفيع الثمن والتحريض على القيادات الفكرية، ولا زالت مستمرة في مسلسل الملاحقات السياسية وسن القوانين العنصرية، هذا ناهيك عن ماكينة التحريض الاعلامي التي تحاول بث الخوف لخلق فلسطيني هجين خائف، فالمؤسسة الإسرائيلية باتت تشن حربًا على كل من يتمسك بالثوابت والهوية الوطنية والرواية
الفلسطينية ولا يؤمن بلعبة الكنيست.
أصبحنا نرى اليوم مشاريع لمحو الذاكرة والهوية والرواية والثقافة الفلسطينية، فهناك من السياسيين العرب من يحاول مجابهة هذه السياسة بما يسمى النضال المدني فقط وتغييب النضال الوطني والشعبي، هناك من يسعى الى تهجين الداخل الفلسطيني للقبول باللعبة السياسية الإسرائيلية وكأنها الملاذ الأخير، في حين يسعى آخرون إلى تحقيق مصالِحِهِم الخاصة على حساب المصلحة الوطنية الجماعية، هناك من يساعد المؤسسة الإسرائيلية على تفريغ الصراع من مضمونه وجوهره، ومنهم من يحاول هدم الهوية الفلسطينية وخلق شخصية فلسطينية هجينة ومشوهة، لا بل هناك من بات يحرض على المتمسكين بالثوابت الرافضين للعبة الصهيونية، ناعتًا إياهم بأوصاف الخيانة واللاواقعية والتطرف.
يمر المجتمع العربي بحالة من التشرذم والتجزؤ الفئوي والتجاهل الواضح لموضوع الثوابت والمشروع الوطني الذي يجب أن يكون محل إجماع فلسطيني. وعليه نحن نرفض أن نكون جزءًا من برنامج ومشروع سياسي يُسقط الخصوصية الوطنية والرواية التاريخية لصالح اللعبة السياسية الإسرائيلية ونرفض أن نكون جزءًا من مشروع فك الارتباط مع المشروع الوطني الشمولي الرافض للمشروع الصهيوني، كما ونرفض أن يكون الحق المدني المنقوص الذي أصبح أداة تأديب بيد المؤسسة الإسرائيلية لفرض مواقفها السياسية فوق الحق الوطني.
إن ما يحصل هو عبث سياسي بالوعي والذاكرة والهوية الجماعية الفلسطينية.. لكل ذلك وأكثر فأنا مقاطع لانتخابات الكنيست الصهيوني.
[email protected]