بعد أن دارت عجلة الانتخابات جُمِّدَ التحضير لها فجأة، رغم موافقة الفصائل على ما جاء في رسالة الرئيس التي حملها حنا ناصر. السبب المعلن لهذا التأجيل المفتوح رهن إصدار المرسوم الرئاسي بالحصول على الموافقة الإسرائيلية، وسط تقدير مرجح جدًا بعدم إمكانية سماح حكومة بنيامين نتنياهو بإجرائها في القدس، لا سيما أن إسرائيل تعيش حمى المنافسة الانتخابية بين اليمين الديني واليمين العلماني.
ماذا حصل؟ فهل تراجع الرئيس عن إجراء الانتخابات، أم أنه لم يكن ينوي إجراءها أصلًا، مراهنًا على الرفض الحمساوي والإسرائيلي، أم أن الأمر يتعلق فعلًا بضرورة إجرائها في القدس، لأن السيادة على القدس أهم من إجراء الانتخابات!
ولسبر غور هذا الموضوع، من المفيد أن نقف قليلًا عند الكيفية التي جرت فيها الانتخابات في مدينة القدس سابقًا، حيث نَظَّمَ الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي إجراء الانتخابات بشكل سيئ، من خلال السماح لعدد محدود (6 آلاف مقدسي) فقط بالإدلاء بأصواتهم في مراكز البريد الإسرائيلية، بحجة أن هذه المراكز لا تتسع لعدد أكبر، أي جرى التعامل مع المقدسيين كأجانب مقيمين وليسوا مواطنين أصلانيين، وذلك من خلال وضع مغلفات بأصواتهم في صناديق البريد، ونقلها إلى السلطة فيما بعد.
وبفعل هذا الأمر، وبسبب الأجواء الأمنية والقمعية التي تخلقها سلطات الاحتلال يوم الانتخاب، وتخلي المنظمة العملي عن القدس من خلال تأجيل التفاوض عليها إلى المفاوضات النهائية، وعدم منح القدس ما تستحقه من اهتمام وموازنات، وتعدد وتنافس المرجعيات والتعيينات العشوائية؛ أدى إلى أن أكبر عدد شارك في التصويت بمدينة القدس لم يصل إلى 3 آلاف، كما جرى في الانتخابات التشريعية السابقة 2006.
إن الرفض الإسرائيلي لإجراء الانتخابات في القدس، الذي يتضح من خلال عدم الرد على الطلب الفلسطيني، فرصةٌ ذهبيةٌ لتغيير كيفية تصويت المقدسيين، عبر تحويلها إلى معركة مع الاحتلال، من خلال وضع صناديق الاقتراع في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والمدارس. وإذا قامت قوات الاحتلال بمنع التصويت، فهذا يظهرها على حقيقتها أمام العالم كعدو للديمقراطية، وهذا يؤكد فلسطينية القدس، وينزع السيادة الإسرائيلية عنها أكثر مليون مرة مما كان يجري في السابق.
وفي هذا السياق، فإن صدور المرسوم يمثل أداة ضغط على الاحتلال. أما استمرار رهن الانتخابات بالموافقة الإسرائيلية على إجرائها في القدس، فهذا يعني وضع الفيتو بيد إسرائيل، وتأجيل عقدها حتى إشعار آخر.
وللإجابة عن سؤال المقال، يجب أن نعود إلى توقيت دعوة الرئيس التي جاءت بعد موافقة "حماس" على مبادرة الفصائل الثماني، ما جعل "فتح" تبدو معزولة، الأمر الذي أوجب المبادرة إلى الدعوة لإجراء الانتخابات. إلا أن السبب الرئيس وراء دعوة الرئيس، وهو نفس السبب لتأجيلها، أنها جاءت بعد إجراء الجولة الثانية من الانتخابات الإسرائيلية ضمن توقعات، ووسط ترجيح من الرئيس وأوساطه، بنهاية نتنياهو وقرب تشكيل حكومة جديدة برئاسة بيني غانتس، وهذا لم يحدث، ومن غير المضمون أن يحدث، والرهان على أنها ستكون حكومة ذات سياسة مختلفة إزاء السلطة، إذ يمكن أن توافق على إجراء الانتخابات في القدس، وتفتح مسارًا سياسيًا، وتتخذ موقفًا أكثر تشددًا من حركة حماس، وتساعد السلطة على العودة إلى القطاع.
إضافة إلى ما سبق، هناك أسباب عدة لتراجع إمكانية إجراء الانتخابات، ومنها الحقائق العنيدة المترتبة عن الانقسام بحيث لا يمكن تجاهلها، واتساع الهوة بين السلطة والشعب، إذ قالت نسبة 61% إنها تريد من الرئيس الاستقالة، ونسبة 59% غير راضية عن أدائه، وذلك وفق استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في منتصف كانون الأول 2019. كما أعطى الاستطلاع نسبة 32% لحماس، مقابل 40% لفتح (5% منهم سيصوتون لمحمد دحلان)، وتنخفض بذلك نسبة تصويت فتح إلى 35%، أي يجعلها متقاربة جدًا مع "حماس".
ومن الأسباب كذلك، اتضاح عدم جهوزية حركة فتح التي ظهرت أولًا ببدء إرهاصات فتحاوية لتشكيل قوائم عدة، وخاصة إذا لم يتم اختيار القائمة المركزية على أسس ومعايير موضوعية تتيح إمكانية للتغيير ولمشاركة واسعة في الاختيار، فضلًا عن التصريح بتشكيل قائمة يدعمها محمد دحلان، والتلويح بأخرى يشكلها مروان البرغوثي، وثالثة من أعضاء المجلس الاستشاري، ورابعة من الشبيبة، وخامسة مشكلة ومدعومة من أعضاء غاضبين من اللجنة المركزية. وثانيًا، بتفجر الصراع على الخلافة، كما ظهر علنًا بالخلاف بين أعضاء مركزية "فتح" على مرشح الحركة للانتخابات الرئاسية، بين من يعتبر الرئيس عباس مرشح الإجماع الفتحاوي، وبين من يعدّه الأب القائد الذي لن يخوض الانتخابات.
هل يعني ما سبق أن الرئيس لا يريد إجراء الانتخابات بشكل مطلق وفي كل الأحوال؟ لا طبعًا، بل هو متردد ما بين عقدها وعدم عقدها.
فلو كان الرئيس لا يريد الانتخابات لأصرّ على قبول المرشحين بالاتفاقيات والالتزامات، أو لاعتبر التحفظات الواردة في رسالة "حماس" التي وصفتها قيادات فتحاوية مليئة بالألغام التي يمكن أن تنسف الانتخابات في أي وقت، والناجمة عن أن "حماس" لا تفضّل إجراء الانتخابات، ولكنها لا تريد أن تتحمل المسؤولية عن عدم إجرائها، ولا تمانع عقدها، إذا كان لا بد من ذلك، ما دامت لن تغير جوهريًا من سيطرتها على القطاع. كما يمكن التذرع بما تقوم به "حماس" لتعزيز سيطرتها على غزة، عبر التقدم على طريق تطبيق التفاهمات مع إسرائيل، خصوصًا بعد الشروع في إقامة المستشفى الأميركي.
كما أن هناك مؤشرات على أن "فتح" تستعد لاحتمال إجراء الانتخابات كما يظهر باللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات، وبلقاء الرئيس مع فدوى زوجة مروان البرغوثي، وما نقل عنه بأن الرئيس أكد لها بأن مروان هو الرئيس القادم بعده، وبالطلب من أوروبا والعالم ممارسة الضغط على إسرائيل للسماح بإجراء الانتخابات في القدس، والطلب من دول أوروبية بفتح مراكز انتخابية في مقرات قنصلياتها، وشروع الحكومة بحل مشاكل عالقة، مثل "متفرغي 2005" البالغ عددهم 13 ألف، والتقاعد المالي القسري الذي شمل آلافًا عدة، وترتيب قيادة "فتح" في القطاع، وسط الثقة التي توّلدت بعد الحشود الغفيرة التي أحيت ذكرى الانطلاقة.
هل ستجري الانتخابات في هذا العام؟
المرجح أنها لن تجري قبل اتضاح إلى أين تسير إسرائيل، وما الحكومة التي ستُشكل، وهل ستشكل أم ستبقى تدور في نفس الدوامة وتذهب إلى انتخابات رابعة. وربما من المفضّل فلسطينيًا انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهل سيعاد انتخاب دونالد ترامب أم المرشح الديمقراطي.
وفي حال نجاح نتنياهو وترامب، فلن نكون أمام انتخابات فلسطينية، وإنما أمام مجابهة واسعة والمسارعة إلى استكمال تطبيق خطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، عبر المزيد من الاستعمار الاستيطاني العنصري، والضم والتهجير، وتصفية قضية اللاجئين، والاستثمار في الانقسام الفلسطيني، وتكريس السلطة باعتبارها سلطة حكم ذاتي من دون مهام سياسية، مهمتها إدارة السكان وأمورهم الحياتية والمعيشية، والإسهام في توفير الأمن للاحتلال .أما في حال فوز غانتس وخسارة ترامب فإن فرص عقد الانتخابات ستزيد.
إن إجراء الانتخابات تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام، وما يرافقه من إجراءات متبادلة وأجواء عدم الثقة، ومن دون الاتفاق على برنامج القواسم المشتركة؛ لن تكون انتخابات حرة ونزيهة وعادلة وتحترم نتائجها، وستؤدي في أحسن الأحوال إلى تكريس الانقسام وشرعنته. فإنهاء الانقسام ضمن تصوّر شامل وإستراتيجية جديدة هو المدخل لإجراء الانتخابات لا العكس، والانتخابات يجب أن تكون أداة في وجه الاحتلال، أي تجري في سياق كفاح الشعب الفلسطيني لإنجاز حقوقه وأهدافه ومصالحه وطموحاته، وليس لتكريس الأمر الواقع الكارثي.
[email protected]