نسج الصهاينة خيوط مشروعهم بحكمة بالغة، في أروقة المؤتمرات والندوات، وعبر صفحات الكتب والمنشورات، ووظّفوا خدمة له كل شيء من مال وإعلام، واشتروا ذمم قادة عظام من رؤساء وزعماء، لا بل سخّروا لذلك مؤسّسات دولية بأكملها.
نجح دعاة المشروع الصهيوني أكثر من مرة على طريق تحقيق ما خطّطوا له، بدءا من إقناع يهود أوروبا بالهجرة إلى فلسطين، مرورا بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 وما تلاه من انتداب بل استعمار بريطاني لفلسطين (1917-1948)، وما رافقه من كتب بيضاء بل سوداء منحازة للمشروع الصهيوني وأهمها قرار التقسيم الأول سنة 1937، ثم قبول أمريكا بمقررات مؤتمر بالتمور سنة 1942 الداعي إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، وصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 رقم 181 المعروف بقرار التقسيم.
قرار التقسيم هذا أعطى شرعية دولية لليهود في إقامة دولة لهم في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني، رغم تشكيل العرب للغالبية العظمى من السكان حينها، وامتلاكهم أيضا لما يربو على 90% من الأرض، في سابقة غير قانونية ولا أخلاقية لم يشهدها التاريخ البشري.
إن قرار التقسيم هذا باطل، فقد بني على باطل أصلا، لصدوره عن مؤسسة غير تنفيذية وإنما تشريعية هي الجمعية العامة التي تعتبر قراراتها غير ملزمة، وإنما هي أقرب إلى التوصيات منها إلى القرارات كما هو حال مجلس الأمن، ثم إنه لم يستفت الشعب الفلسطيني في هذه القضية، وإنما فرض عليه، متجاهلين مبدأ حق تقرير المصير الذي هو مبدأ أصيل من مبادئ القانون الدولي الإنساني ضمن وثيقة الأمم المتحدة.
نجحت الحركة الصهيونية في تحصين مشروعها الظالم بقرار التقسيم هذا، فغدا لها مرجعية، وشرعية دولية في فعل ما تشاء ضد الشعب الفلسطيني، وبحماية وغطاء دوليين، الأمر الذي ترجمه الصهاينة على شكل نكبة للشعب الفلسطيني، ومسوّغ لارتكاب مجازر جماعية، وتدمير مئات القرى والمدن الفلسطينية، وتدنيس المقدسات وانتهاك حقوق الانسان وغيرها من الممارسات العنصرية والفاشية، وأهمها احتلال أكثر من ثلاثة أرباع الأرض الفلسطينية، وتهجير غالبية الشعب الفلسطيني من وطنهم.
ترجم قرار التقسيم إذا على شكل نكبة عامة للشعب الفلسطيني لا تزال مستمرة حتى الساعة، وبصور مختلفة من ارتكاب لمجازر، وشن لحروب، وحملات عسكرية، إلى اغتيالات لقادة، وملاحقات سياسية، وسن قوانين عنصرية، وتكميم أفواه، وإخراج حركات عن القانون، واعتقالات عشوائية، ومضايقات على مستوى لقمة العيش والبناء والتطوير.
لقد غدا اليوم قرار التقسيم هذا، وما تلاه من نكبات غير كاف لإشباع شهوة التوسع والهيمنة لدى حاملي لواء المشروع الصهيوني، وعلى رأسهم قادة الكيان الإسرائيلي في القضاء على الفلسطينيين ووأد مشروعهم الوطني، ومطالبتهم بالعودة وتقرير المصير، فباشروا في الترتيب لضم غور الأردن كخطوة متقدمة لضم الضفة الغربية مدنيا لهذا الكيان بعدما ضموا الجولان السوري المحتل، على طريق تهجير الفلسطينيين، تنفيذا لما خطّطوه سابقا في إقامة دولة يهودية خالصة.
صحيح ان المشروع الصهيوني قد نجح بشكل عال، ولم يكن ذلك ليحصل لولا دعم الدول العظمى وأنظمة عربية له، إلا أن الحقوق الشرعية عادة لا تسقط بالتقادم، وإنما باقية ما دام أهلها بها مطالبين وغير مفرّطين.
[email protected]