تشير النتائج الأخيرة لامتحانات "بيزا" الدولية الصادرة مؤخرا إلى تدني النتائج العامة للتلاميذ العرب في المجتمع العربي، مقارنة بالسنوات الماضية ومقارنة بنتائج التلاميذ اليهود في المجتمع الإسرائيلي عامّة. رغم أنّ هذه النتائج مقلقة وأنّها تدّق ناقوس الخطر بالنسبة لأوضاع التربية والتعليم في مجتمعنا العربي عامة، إلّا أنّها ليست بالأمر الجديد الّذي يطلّ علينا لأول مرّة، في ظلّ تسارع الزمن وما يحصل من مستجدات تربوية وتحصيلات علمية، سيّما فيما يتعلّق بازدياد نسبة الطلاب العرب في مؤسسات التعليم العالي في البلاد وخارجها (بلغ عدد الطلاب العرب في البِلاد وخارجها في السنة الدراسية 2018-2019 نحو 65.000 طالب). ما من شك أنّ النتائج عامة غير مرضية وأنها ناتجة عن إخفاقات عِدّة متنوّعة لسنوات طويلة مضت.
في البداية، يجب الإشارة إلى مكانة المعلم المتدنية في المجتمع العربي في البلاد وعزوف الطلاب من ذوي التحصيلات العالية عامة عن الالتحاق بكليّات التربية وإعداد المعلمين، رغم وجود عدد كاف من هذه الكليّات لتأهيل المعلمين العرب والتي ترتكز في الأساس على السياق الثقافي والاجتماعي، ولغة التدريس فيها عامّة هي اللغة العربية. فاستثمار وزارة التربية في تحسين مهنة المعلم وطرائق تأهيله المهنية والعصرية لم يكن كافيا على صعيد كليات التربية (سوى برنامج "تحدّيات" الذي يسعى لتعزيز اللغة العربية واللغة العبرية بين طلاب كليات التربية). فالمِنح الدراسية المخصّصة لم تكن كافيةً لجذب طلاب ذوي تحصيلات علمية وقدرات ذهنية عالية إلى مهنة التدريس. ومثل هذه المنح إن وجدت (مثلا منح برنامج المتميزين-المتفوقين) فإنها في مراحل توظيف ودمج الخرّيجين من هذه البرامج في مهنة التدريس لاحقا، تصطدم بواقع صعب من التعيينات وفائض عدديّ كبير من المعلمين وخريّجي كليات التربية عامة العاطلين عن العمل؛ مما يصعّب من دمجهم في المدارس العربية، وبالتالي تضييع الفرصة أمامهم. وما من شك فإنّ تداعيات ذلك تكون غالبا سلبية على الطلاب الذين كانوا يخطّطون للالتحاق بمهنة التدريس مستقبلا. الأمر ذاته ينسحِب على الأكاديميين العرب مع مواضيع تخصص علمية وتكنولوجية، حيث أنّ هؤلاء يلتحقون بمهنة التعليم بأعداد قليلة، رغم النقص في معلّمين ذوي جودة عالية في مجالات العلوم والتكنولوجية. في المقابل، كانت هناك حاجة للاستثمار كثيرا في برامج إضافية لجذب طلاب متميزين إلى مهنة التدريس، وتحسين جودة تأهيل المعلمين بواسطة إدخال وتبنّي طرائق وأساليب تعليم عصرية وحديثة وإدخال المشاريع والبرامج التعليمية والبيداغوجية الحديثة التي تساهم في تطوير مهنة التدريس، وتطوّر الهويّة المهنية لدى المعلم العربي مع الحفاظ على سياقة الثقافي ومنظومته القيمية.
إنّ المجتمع العربي في البلاد لم يُحسن -في نظري- استغلال قرارات الحكومة رقم 922 والتي كان من الواجب استثمار ميزانيات هائلة بموجبها في تحسين أوضاع التعليم العربي، سيّما وأنّ الخطّة الموضوعة تنتهي في عام 2020. كان من الواجب الاستثمار في تحسين جودة التعليم في مواضيع اللغة العربية، الرياضيات، العلوم واللغة الإنجليزية. لا نريد أن نتكبّد العناء ونلهث فقط وراء التحصيلات الرقمية والنسب المئوية، مع العلم أنّها ذات أهمية في القياس والتقييم. كذلك لا نريد دائما أن نقارن أنفسنا بتحصيلات مجموعات سكانية أخرى، رغم أهميتها أيضا. فإذا بقينا ساعين لاهثين وراء النسبة العدديّة ووراء المقارنة فحسب، فإنّنا عندئذٍ لا نتقدّم ولا نتحسّن كثيرا، وسنبقى قابعين في مكان متدنٍّ دون مخرجات تربوية وتعليمية هامة. جاء الوقت الّذي فيه يجب الاهتمام بالمعلّم حيث النهوض بجودته وطرائق تدريبه باعتماد مهارات القرن الواحد والعشرين وبالاعتماد على البيداغوجية المستقبلية مع تعزيز خصوصياتنا الثقافية وتعزيز لغتنا العربية إلى جانب ذلك. حان الوقت أيضا أن نتبنّى طرائق تدريس بديلة تعزّز التفكير الناقد والتعلّم عن بعد والتعلّم الاستكشافي والتعلّم الجماعي والتعلّم بما هو متعدد الاختصاصات. فالمعلم سينقل ذلك إلى تلاميذه مستقبلا إذا كان إعداده مناسبا ومتماشيا مع المتغيرّات وظروف الحياة الجديدة وإلى جيل جديد. بالطبع، هذه الأمور لا يصلح انطباقها في صفوف مكتظة بالتلاميذ ولا تشجّع التلاميذ المحرومة من التحصيل الدراسي ولا تصحّ في ظروف فيزيائية صعبة! فللبناء تأثير مباشر على طرق التعليم والتعلّم والاستثمار في البنى التحتية عليه أن يتوازى مع التطوّر التدريسي والبيداغوجي. كان من المهم استغلال ميزانيات قرارات الحكومة 922 لتخصيص الموارد بطريقة تنشئ بنية تحتية مهنية طويلة الأمد لتحقيق هذه الأهداف والاصطبار على لزوم مخرجاتها أيضا لفترة طويلة من الزمن.
في الختام، إنّ مدارسنا العربية أكثر ما تكون بحاجة إلى معلمين متميّزين، وتلاميذنا في مدارسنا لهم الحق أن يكون لهم معلمون ممتازون ومتميّزون يفهمون احتياجاتهم ويراعون ظروفهم الجديدة، ويعدّونهم لمهارات القرن الــــ-21. هذا على أن يحصل معلّمونا وتلاميذنا على حقّهم بأن يدرسوا في مدارس وصفوف تعليميّة حديثة وعصرية. نحن قادرون على ذلك، فلنبدأ.
[email protected]