"مُعسكر اليسار لم يعد موجودًا. وبصورة أدق، لا يوجد مُعسكر يسار قادر على تشكيل بديل للحكومة القائمة. فقط 8% من اليهود في إسرائيل يعرّفون ذاتهم على أنّهم جزء من معسكر اليسار، بحسب معهد الأبحاث بيو". بهذه الكلمات، حرفيًا، افتتح يوعاز هندل، عضو الكنيست والقياديّ في تحالف "كاحول لافان"، مقالته في صحيفة "هآرتس"، تحت عنوان "لا يوجد مُعسكر يسار. ماذا بعد ؟".[1] وعلى الرغم من أن الأزمة السياسيّة الإسرائيليّة ما بعد الانتخابات الثانية، بعيدة كُل البعد عن سؤال "يسار" و"يمين"، إلّا أنه لا يمكن فهمها دون فهم حقيقة عدم وجود "اليسار"، وتحوّل السياسة الإسرائيليّة من مُعسكرَيْن إلى مُعسكر واحد ينقسم إلى اتجاهين: يمين مُحافظ قوميّ ليبراليّ؛ يمين دينيّ توراتيّ. وهذا، ما يفسّر، قبل كُل شيء، قدرة أفيغدور ليبرمان المعروف بعنصريّته ويمينيّته، على التنقّل بين المُعسكرين دون رادع ودون خوف على صورته وتوجّهاته. فالخارطة، التي يتنقّل فيها ليبرمان بحريّة تامّة، لا يمكن أن تكون خارطة "يمين-يسار"، وهي أقرب إلى خارطة "يمين-مركز"، أو "يمين-يمين"، تسمح بتحوّل ليبرمان إلى "مُحايد" ما بين مُعسكراتها له مطالب أساسيّة تكون حول قضايا "الدين-الدولة"، وليس حول سياسة بنيامين نتنياهو و"الليكود" تجاه الفلسطينيّ، التي لم تعد في الحقيقة محل خلاف بين المُعسكرين.
وبكلمات أكثر وضوحًا: حوّل الإجماعُ على إلغاء الفلسطينيّ الصراعَ الأساسيّ في إسرائيل من صراع على الحل السياسيّ مع الفلسطينيّ، إلى صراع على قضايا داخليّة في مُعسكر واحد ووحيد بالنسبة إلى الفلسطينيّ. وهذا ما يؤكّده مثلًا، تصريح ليبرمان الذي قال خلاله إبان العدوان الأخير على قطاع غزّة، إنّه "لا خلافات جوهريّة بين الطرفين تمنع إقامة حكومة وحدة وطنيّة، هناك خلاف على موضوعين أساسيين: من سيكون الأول في التناوب؛ ومتى ينتهي التناوب ويدخل الآخر".[2]
"لولا وجودنا لذبحوا بعضهم البعض"، هذه الجملة تُسمع كثيرًا في فلسطين، وتقول عمليًا إن المُجتمع الإسرائيليّ يُصدّر أزماته الداخليّة نحو الصراع المركزيّ مع الفلسطينيّ. ولعلها باتت واقعًا في ظل تراجع المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، والتهميش المُستمر لمؤسساته الوطنيّة وتحوّلها إلى مؤسسات إدارية دون إستراتيجيّة، ما أدّى إلى تراجع مكانة الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ في سلّم أولويّات الإسرائيليّ، وبالتالي ينعكس على تصويته في الصندوق. وهو ما يلعب دورًا كبيرًا في صياغة الرأي العام الإسرائيليّ: موازين قوى تميل إلى صالح الإسرائيليّ نسبة إلى الفلسطينيّ، ما يخلق نوعًا من عنجهيّة النصر؛ تراجع القوى السياسيّة الداعية إلى حل الصراع لصالح القوى الداعمة لإدارته وحسمه. وهذا فعليًا، ينعكس على خيارات الإسرائيليّ، ولا يمكن الاطّلاع على المشهد الحاليّ السياسيّ في إسرائيل، دون مُلاحظة الغياب الواضح والصارخ للبرامج التي تطرح مسارًا سياسيًّا يفضي إلى حل الصراع. وباختصار: فلسطين الحاضرة في غيابها.
وعلى الرغم من أن الإسرائيليّون لا يذبحون بعضهم البعض، ولكنّهم الآن يعيشون حالة من الانقسام غير المحسوم في الانتخابات بالأساس بسبب قضايا داخليّة: الدين في الحيّز العام؛ الفساد الحكوميّ والمؤسّسيّ؛ الانقسامات الاجتماعيّة؛ القضاء واستقلاليّته وعلاقته بالهيئة التشريعيّة، بالإضافة إلى وحدة المُجتمع. وباختصار: غياب فلسطين يأجّج الأزمة، ولكنّها ليست سببًا للأزمة بطريقة مُباشرة، كما أن استحضارها يأتي في سياق أداة تحريض سياسيّ.
وبناءً على ذلك، ستسعى الورقة إلى قراءة الأزمة الإسرائيليّة، دون التطرّق إلى سيناريوهات تشكيل الحكومة من عدمه، خاصة أن كافة التحليلات تُشير إلى أنه في حال إجراء انتخابات ثالثة، سيغدو المشهد تقريبًا على ما هو عليه. وهو ما يؤشر إلى أزمة أعمق من الأزمة الانتخابيّة، ولعل الأدق هو حقيقة وجود أزمة تشكّل الانتخابات ونتائجها الصورة النهائيّة عنها، وتتشكّل أركانها من ثلاثة: الائتلاف التاريخيّ بين "الليكود" والحاريديم والصهيونيّة المتديّنة، وما أفرزه من سيطرة دينيّة على الحيّز العام؛ عدم وجود فرق سياسيّ جذريّ بين الأحزاب بكُل ما يخص الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ، وهو ما منع نتنياهو من تشكيل الاستقطاب "يمين" و"يسار"، وبالتاليّ فرز المُعسكرات كما حصل سابقًا حيث يُفرز ليبرمان على "اليمين"؛ الموقف من استقلاليّة القضاء والجيش في ظل الهجمة اليمينيّة على توازن "القضاء-التشريع"، والهجمة الدينيّة على الجيش، وهذا بالأساس، ما تؤكّده المفاوضات الائتلافيّة بين القوى المُختلفة؛ القضايا الإشكاليّة في المُفاوضات (لائحة اتهام نتنياهو؛ المحكمة العليا؛ العمل خلال أيّام السبت كما الفصل بين النساء والرجال، كما الموقف من المثليين)، أمّا إن بحثنا عن قضايا سياسيّة جوهريّة خلافيّة لها علاقة بحل الصراع وليس إدارته، فلن نجد أيًا منها.
يوم تغيّرت قواعد اللعبة
منذ اليوم الأول في الحملات الانتخابيّة الأولى أو الثانية، أطلق نتنياهو حملته تحت عنوان "غانتس: يسار ضعيف" و"نتنياهو: يمين قويّ". وهو ما استمر بعد الانتخابات الثانية أيضًا. ففي استوديو القناة الإسرائيليّة الثانية عشرة، بعد تبيان النتائج للانتخابات الثانية وتفوّق "كاحول- لافان" على "الليكود" قال دودي أمسالم، وزير الإعلام والقياديّ في "الليكود"، لعوديد فورير، القياديّ في حزب "يسرائيل بيتينو"، إن "نتائج الانتخابات مهمة، ولكنها ليست نهائيّة، وعلى ليبرمان العودة إلى المنزل في اليمين.
الآن انتهت الانتخابات وانتهت الحملات، انتم لا تنتمون إلى اليسار". وهذا ما عاد نتنياهو ليُشدّد عليه مرّة أخرى في مُناسبات عدّة: ليبرمان يسار.[3] وحاول نتنياهو، مرارًا، خلال الحملة العودة إلى مربّعه الأول والأساسيّ: "أنا اليمين، وكُل من يُعاديني هو يسار". فأدّت هذه الحملة نتائجها في الجولة الأولى من الانتخابات، حيث حاز "الليكود" على ما يُعادل 35 مقعدًا. وفي الحقيقة فإن نتنياهو استطاع اكتساح مُنافسيه الواحد تلو الآخر تاريخيًا من خلال هذا الاستقطاب الذي يخلقه مع كُل انتخابات جديدة، بهدف رص مُعسكره، حتّى لو كان هذا اليسار وهميًا. وهو ما خلق مُعسكرًا مُقابلًا يعيش حالة من الإنكار ليساريّته، ويتموضع في الدفاع، ويُحاول اللحاق بنتنياهو يمينًا، وهذا ما دفع إيهود باراك، في هذه الانتخابات للخروج بمقولة "اليسار ليس شتيمة".
وعلى الرغم من جميع مُحاولات نتنياهو ضرب تحالف "كاحول-لافان" وليبرمان عبر وصفهم باليساريّة، إلّا أن هذا كلّه تحطّم على صخرة الواقع: لم يعُد هناك يمين ويسار بالمفهوم القديم لليمين واليسار. وهذا، ما تؤكّده صحيفة المستوطنين اليمينيّة أيضًا، ماكور ريشون، حين نشرت مقالًا للجنرال دورون ماتسا، الباحث اليمينيّ، تحت عنوان: "لم يعد هناك يمين ويسار: ليبرمان هو السياسيّ الأول الذي شخّص هذا".
بالنسبة إلى سياسيّ كنتنياهو، أقام إمبراطوريّته السُلطويّة منذ تحريضه على إسحاق رابين خلال توقيع اتفاق "أوسلو"، ولاحقًا على ثنائيّة "يسار- يُريد تسليم الأراضيّ للعرب" و"يمين – يُريد الحفاظ على وحدة أرض إسرائيل"، فإن هذا الواقع يُعد بمنزلة تغيير في قواعد اللعبة السياسيّة التي يعيش عليها: لم يعد من الممكن اتّهام الآخر باليساريّة، حين يكون الآخر موشيه يعالون، وزير الأمن السابق في حكومة نتنياهو ؛ لم يعد من الممكن بعد اتّهام الآخر باليساريّة وهو على يمينك كليبرمان؛ لم يعد من الممكن اتّهام الآخر باليساريّة وهو كان حتّى وقت قصير جدًا مدير مكتبك كيوعاز هندل؛ لم يعد من الممكن بعد اتّهام الآخر باليساريّة، وهو على جاهزيّة تامّة لتعيين نفتالي بينيت الذي صاغ حملته الانتخابيّة على أساس أنّه على يمين نتنياهو، وزيرًا للأمن؛ وأيضًا، لم يعد من الممكن اتّهام الآخر باليساريّة، في الوقت الذي لا يزال الآخر يرفض التنازل عن الأرض، وحين يُقال الاستيطان يرد بضرورة "تعزيزه".
وهذا الواقع، هو واقع تدريجيّ منطقيّ: في الوقت الذي أشارت كافة التحليلات التي تعنى بالشأن الإسرائيليّ منذ سنوات إلى أن اليمين مُسيطر، يُمكن القول اليوم إن اليمين قد يتأبّد، وإن اليسار الذي أراد يومًا التفاوض مع الفلسطينيين كرابين وبيريس، بات في عداد الأموات، وإن الوقت الذي كنّا نتحدّث فيه عن هيمنة اليمين، بات خلفنا، والوقت اليوم هو وقت تحوّل الساحة الإسرائيليّة برمّتها إلى ساحة يمين فيها بعض بقايا اليسار: حزب العمل حاز على 6 مقاعد فقط ومُهدّد بالانهيار كليًا؛ "ميرتس" حاز على 5 مقاعد بعد أن تحالف مع إيهود باراك، وهو أيضًا مهدّد بالانهيار كليًا. وهنا تحديدًا، تسكن الأزمة بالنسبة إلى نتنياهو، وهي المسبّب أيضًا في استمرار هذه الأزمة، التي تأخذ صورتها النهائيّة عبر وجود ليبرمان في الوسط بين يمينَيْن. وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن نتنياهو لم يتوقّف بعد، فأطلق على مُعسكره المُشكّل من الأحزاب الدينيّة والصهيونيّة المتديّنة "بلوك اليمين"، ولا يزال يصف الآخر باليساريّة، إلّا أن هذا لم يعد يشكّل الأداة المركزيّة في صياغة الخارطة كما كان سابقًا، خاصة أن الحقيقة باتت أكثر وضوحًا: اليسار موجود في الإعلام، حيث يجب خلق معسكرَيْن، وعلى الأرض كما الصندوق، لا تتعدّى نسبته 8% بحسب معهد الأبحاث "بيو".[4]
هذا ما يلتقيّ أيضًا مع الدعاية والتركيبة الأيديولوجيّة لتحالف "كاحول-لافان" المركّب أساسًا من: أولًا، "مناعة لإسرائيل" بزعامة بيني غانتس، الذي اتخذ من ألوان الجيش الإسرائيليّ الألوان الرسميّة للحزب، وشعار "إسرائيل قبل كُل شيء" شعارًا رئيسيًا لحملته الانتخابيّة، مشدّدًا على مقولة "لا يسار ولا يمين، إسرائيل واحدة"[5]؛ ثانيًا، حزب "تيلم" بزعامة موشيه يعالون الذي أعلن صراحة رفضه لإخلاء المستوطنات كما رفضه للدولة الفلسطينيّة بشكل قاطع في الضفّة الغربيّة[6]؛ وثالثًا، حزب "ييش عتيد" بزعامة يائير لابيد، الذي يُعرّف ذاته على أنّه حزب "مركز" وكان وزيرًا للماليّة خلال ولاية نتنياهو في العام 2013، وطرح الانفصال عن الفلسطينيين كحل للصراع، ولكن الانفصال يتم من خلال حصر الفلسطينيين في معازل حكم ذاتيّ[7]. أمّا بالنسبة إلى مصوّتي "كاحول-لافان"، فإن 44% منهم، أي ما يُعادل نصف المصوّتين تقريبًا، يرفضون التوجّه إلى حكومة ضيّقة تستند إلى القائمة العربيّة المُشتركة، في حين يرفضها حوالي 59% من مُجمل اليهود في إسرائيل.[8]
هذا طبعًا، مع الإشارة إلى أن الحكومة فقط ستحوز على ثقة النواب العرب، ولا يشكّلونها، وإن كان السؤال حول وجود العرب في الحكومة، فإن النسب ستكون أعلى بكثير. وفي الحقيقة، فإن هذه التوجّهات، أبعد ما يكون عن "اليسار الصهيونيّ"، الذي أراد قتل الفلسطينيين في يد، والحديث معهم باليد الأخرى، وهي فعلًا تلائم يمين مُحافظ يستند إلى نظريّة الجدار الحديديّ ويتخذ من جابوتنسكي المنظّر الأول.[9]
بين يمينَيْن: قوميّ مُحافظ ودينيّ خلاصيّ
اليمين الإسرائيليّ مدارس ومناهج مُختلفة، وبالأساس هناك مدرستان أساسيّتان في السياسة الإسرائيليّة اليوم: اليمين الدينيّ الذي يتخذ من الراف كوك، الأب الروحيّ للصهيونيّة المتديّنة، الطريق، ويعد المنظّر الأكبر والأب الروحيّ؛ واليمين القوميّ الذي يتخذ من جابوتنسكيّ منظرًا وأبًا روحيًا. وبينهما اختلاف جدّي نحو الداخل: مؤسّسات الدولة؛ المحكمة العليا؛ الشرعيّة السياسيّة للمشروع الصهيونيّ؛ الحريّات في الحيّز العام، كما الحقوق المدنيّة.
وفي هذا السياق، يقول هندل في مقالته مثلًا "ماذا بعد، كيف يمكن عدم تحويل الكنيست إلى ملجأ للمشتبه بهم. الخطوة الأولى، هي إزاحة النقاش غير المُجدي بيننا على إنهاء الصراع الفلسطينيّ". ويضيف متوجّهًا إلى صحيفة "هآرتس" التي يكتب فيها المقال بالقول "هذا هو العكس عن الذي يُطرح على هذه الصفحات. نتائج الانتخابات تُثبت أنّه من الممكن صياغة إجماع على القضايا الجوهريّة، كاحول-لافان، هي الكتلة الأكبر في الكنيست اليوم، وهذا هو الجواب. وهذا الإجماع بعيد كُل البعد عن النقاش القديم بين "يسار" و"يمين". وهي تتركّز أساسًا في "المُحافظة" و"الرسميّة" والدفاع عن مؤسسات الدولة (الجيش؛ الشُرطة؛ والهيئة القضائيّة). وهي بالأساس لمُحاربة الفساد، والتركيز على حقيقة أنّه إلى جانب الحفاظ على الأهداف القوميّة هناك حاجة إلى تطوير القيم الليبراليّة".
ومن المهم الإشارة إلى ما يُضيف في ذات المقال فيقول "في واقع آخر، هذه القيم كانت ستكون ذات القيم التي تشكّل شعارات الليكود وأحزاب اليمين الليبراليّ. وليس اعتباطًا أن كتلة "تيلم- برئاسة يعالون في ائتلاف كاحول-لافان" تدافع عن قيم اليمين الأيديولوجيّ أكثر من "الليكود". وهذا كلّه، كُتب على يد عضو كنيست عن "كاحول-لافان" وقياديّ بارز في التحالف. وفي الحقيقة، فإن هذا المقال، يبرز ويفسّر حقيقة عدم وجود طرح جدّي من قبل "كاحول-لافان" يختلف عن طرح "الليكود" بكُل ما يخص القضيّة الفلسطينيّة، وعدم وجود أي بادرة من جانب التحالف المُنافس "لليكود" لحل الصراع، بل هي مجرّد طروحات مُختلفة لإدارة الصراع وطريقة فعل ذلك: لقد وضعوا الصراع جانبًا كما يقول هندل.[10]
ما يقوله هندل يفسّر أساسًا عدم وجود طرح جدّي لدى غانتس وائتلافه لحل الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ: عندما يقول نتنياهو بأنّه سيقوم بضم الأغوار، يرد غانتس بالقول إن غور الأردن سيبقى الحدود الشرقيّة لإسرائيل، ويضيف بأنّه سيعمل على تعزيز الاستيطان فيه.[11] وفي الوقت الذي يسعى نتنياهو إلى قتل إقامة كيان فلسطينيّ، وتحويل القضيّة إلى قضيّة إنسانية مدنيّة بعيدة كُل البعد عن البعد القوميّ، يسعى غانتس إلى مأسّسة هذا التوجّه وإجراء مفاوضات مع الفلسطينيين تكون تحت سقف تحسين ظروف الحياة المعيشيّة دون إنهاء الاحتلال، ومع الحفاظ على حريّة تامّة لحركة الجيش في المناطق الفلسطينيّة دون أن يفصح عن موقفه ما بعد رفض الفلسطينيين لرؤيته. وهذا كلّه، وسط خلاف جدّي بين الطرفين على آليّة التعامل مع غزّة: نتنياهو يسعى إلى تهدئة، وغانتس يسعى إلى عدوان عسكريّ؛ نتنياهو يتجاهل السُلطة الفلسطينيّة كليًا، وغانتس يسعى إلى إنعاشها. ولكن في المُجمل، لم يطرح أي منهما، فعلًا، كيانًا سياسيًّا فلسطينيًّا. بل أبعد من ذلك، يوافق كلاهما على "قانون القوميّة" الذي ينزع حق تقرير المصير عن الشعب الفلسطينيّ، ويحتكر الحق لليهود على أرض فلسطين التاريخيّة. وفي هذا موقف واضح. إذًا، أين الخلاف؟
وهنا يغدو من الخطأ كليًا القول إنّه لا يوجد خلاف بين الطرفين، وأن كلاهما على ذات الصفحة. والدقيق عمليًا، هو وجود خلافات على شكل إدارة المُستعمرة ومؤسساتها والحيّز العام فيها، يُفرز عنه بعض الاختلاف في آليّة التعامل مع الفلسطينيّ كناتج عن تغيير نمط الحكم وآليّات الإدارة، وليس هو الاختلاف الأساسيّ. وبكلمات أخرى: التغيير الأساسيّ الذي يسعى إليه غانتس هو تغيير في إدارة الدولة، وبطريقة غير مُباشرة يمكن أن يحصل تغيير شكليّ في التعامل مع الفلسطينيّ، ولكنّه يبقى في إطار وتحت سقف اليمين جوهريًا، مع التشديد على أن التغيير سيأتي ضمن تغيير إدارة الدولة، وليس ضمن تغيير سياسات وتوجّهات الدولة الأيديولوجيّة، أو الأهداف القوميّة التي يُجمعون عليها مع ليبرمان.
ومن هذا المنطق، ينبع السؤال الأساسيّ: على ماذا هذا الخلاف بالتحديد؟ والجواب يسكن في موقعَيْن أساسيين: العلاقة ما بين الدولة والدين ومكانة الدين في الحيّز العام أولًا وقبل كُل شيء، وهذا بالأساس هو القضيّة التي خاض ليبرمان الانتخابات تحت شعارها؛ ومؤسسات الدولة والعلاقة فيما بينها، كالعلاقة بين الهيئات التشريعيّة والقضائيّة والتنفيديّة.
ومن خلال هذه القراءة فقط، يمكن فهم الخلاف الأساسيّ أمام تشكيل الحكومة اليوم: ليبرمان – الحاريديم - المتديّنين. هذا هو الخلاف الأساسيّ الذي يمنع تشكيل حكومة إسرائيليّة حاليًا. وما يوضّح أكثر هذه الأزمة، هو الاطّلاع على آراء مصوّتي المُعارضة في إسرائيل، التي تظهر بقوّة من خلال مؤشّر "دين-دولة" للعام 2019. فعلى سبيل المثال، يشير المؤشّر إلى أن 74% من اليهود في إسرائيل غير راضين عن أداء الحكومة في مجال "الدين-الدولة"، وأن 63% من الإسرائيليين يريدون حكومة وحدة وطنيّة مدنيّة غير مرتبطة بالأحزاب الدينيّة وتعمل على تطوير الحريّة الدينيّة والمساواة. ومع الإشارة إلى أن نتنياهو استند تاريخيًا إلى الأحزاب الحاريديّة، يمكن قراءة أزمة تشكيل الحكومة بطريقة مُختلفة، على أنّها أزمة تحالف نتنياهو أكثر من أزمة توجّهات نتنياهو السياسيّة بكُل ما يخص الصراع الفلسطينيّ.
وفي هذا السياق، تبدو نتائج الانتخابات فعليًا، الصورة النهائيّة للصراع على هويّة الدولة ومكانة الدين فيها. ففي إسرائيل مثلًا، تشير الاستطلاعات إلى أن 57% من الإسرائيليين يدعمون حق المثليين في التبنّي، هذا في الوقت الذي عيّن نتنياهو وزيرًا للتربية والتعليم، يدعم مُعالجة المثليين على اعتبار أنّهم مرضى نفسيين.
يشكّل التحالف مع الأحزاب الدينيّة الأساس الذي يستند إليه نتنياهو في تشكيل الحكومة تلو الأخرى. وهو بالأساس ائتلاف سياسيّ حاول نتنياهو تصويره على أنّه "ائتلاف حكم اليمين"، وأطلق على التحالف المشكّل من "الليكود – الحاريديم - الصهيونيّة المتديّنة" اسم "بلوك اليمين" الذي يحوي داخله اليوم 55 عضو كنيست ينقصّهم 6 فقط لتشكيل حكومة، وهو ليبرمان الذي انشق عن التحالف بسبب قضايا الدين والدولة. وفي الحقيقة، فإن موت "اليسار" أفضى الساحة إلى خلافات داخل اليمين ذاته. فيدّعي ليبرمان أن الحاريديم أصيبوا بسكرة قوّة، ويسيطرون على مفاصل توزيع الأموال ومراكز صنع القرار في الدولة، لعلمهم بأن نتنياهو يرتكز عليهم في تشكيل أي حكومة، ودونهم لن يستطيع البقاء في الحكم.[12] وما يعود ويؤكّد هذه الحقيقة، هي آراء المصوّتين مرّة أخرى، إذ يشير مؤشر الدين والدولة إلى أن 10% فقط من مصوّتي ليبرمان راضون عن أداء الحكومة في مجال الدين-الدولة، وأن 8% فقط من مصوّتي "كاحول-لافان" راضون عن أداء الحكومة في مجال "الدين-الدولة"، وأن 94% من مصوّتي ليبرمان يريدون حكومة دون الأحزاب الدينيّة، مُقابل 90% من مصوّتي "كاحول-لافان". أمّا من حيث الثقة بمؤسسات الدولة، فهنا يدخل عمليًا الخلاف على إدارة الدولة: يثق 69% من مصوّتي "كاحول-لافان" بالمحكمة العليا مقابل 2% فقط من المصوّتين يثقون في الكنيست؛ أمّا الليكود فإن 18% فقط من مصوّتيه يثقون بالمحكمة العليا؛ وهذا مُقابل 0% من الحاريديم يرون في المحكمة العليا مكان ثقة.[13]
وفي هذا السياق، يبدو الخلاف أكثر منطقيًا على شكل الدولة، وأقل منطقيًا على قضايا سياسيّة جديّة. فالسخرية، أن يكون إيهود باراك، الوحيد، في هكذا خارطة سياسيّة، الذي اقترح وضع حدود ثابتة لدولة إسرائيل. وبالأدق: الصراع الأساسيّ في إسرائيل هو صراع على هويّة الدولة وهويّة مؤسساتها.
شكّل التحالف ما بين "الليكود" والأحزاب الدينيّة مصلحة مُشتركة لكليهما: يستند "الليكود" إلى الأحزاب الدينيّة لتشكيل الحكومة تلو الأخرى، وتستند الأحزاب الدينيّة إلى استناد الليكود عليها بهدف تحقيق أهدافها رغم صغر حجمها نسبة إلى العلمانيين الذين يشكّلون 57% من المُجتمع الإسرائيليّ. وهذا التحالف بين "اليمين العلمانيّ" و"اليمين الدينيّ" كان حتّى بروز هذه الأزمة تحالفًا سياسيًّا لتشكيل جسم مانع يقف في وجه أي مُحاولة "يساريّة" لتشكيل حكومة: تسيبي ليفني فشلت في شقّه؛ وكذلك إسحاق هرتسوغ وشمعون بيريس. فكان تاريخيًا هذا التحالف هو الورقة الرابحة في الصراع مع "اليسار الصهيونيّ".
ومع انهيار اليسار- أي العدو الأساسيّ الذي شكّل تحالفًا "يمين علمانيّ- دينيّ" انفجر الصراع: الدينيّ يرى في الشرعيّة الدستوريّة توراتيّة دينيّة، مُقابل العلمانيّ الذي يرى فيها شرعيّة من المحكمة التي تستند إلى قوانين أساس بغياب دستور؛ الدينيّ يسعى إلى حيّز يهوديّ يمنع العمل والمواصلات العامّة أيّام السبت، مُقابل علمانيّ يسعى إلى العمل طيلة أيّام الأسبوع؛ دينيّ يرى في المثليين خطرًا على المجتمع، وعلمانيّ يرى أنّه يجب أن يكون لهم حقوق مدنيّة؛ دينيّ يرى في العربيّ عدوًا توراتيًّا يجب وضعه ضمن سياق الصراع الدينيّ وخلاص الأرض والسكّان، وعلمانيّ يرى في العربيّ عدوًا سياسيًّا يجب قتله وفق منظومات الدولة المُختلفة، وليس وفق الرواية التوراتيّة والعداء الدينيّ؛ الإجماع على قتل الطموحات القوميّة الفلسطينيّة دون إحراق عائلة كاملة بأوامر ربّانيّة. وهذا أساسًا ما يذكّرنا بالسبب الرئيسيّ الذي دفع العلاقة بين يعالون- نتنياهو إلى الهاوية: الخلاف على الجنديّ قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف في مدينة الخليل، الذي تبيّن أنه أعدمه بعد حلقات بيتيّة مع حاخامات دينيّة، والهجوم بعدها على القضاء العسكريّ الذي حاكمه.[14]
فلسطين: منطق التمنّي
تُشير أي قراءة موضوعيّة للصورة السياسيّة في إسرائيل إلى حقيقة أن السنوات الطويلة التي حذّرت منها الأبحاث في مجال الدراسات الإسرائيليّة، بالقول إن إسرائيل تتجه نحو اليمين أكثر، باتت اليوم حقيقة. ويُمكن القول إن إسرائيل باتت تتنقّل بين "مركز-يمين" وهو ما يشكّل "كاحول-لافان" وبين "يمين-يمين" يشكّله "الليكود" والحلفاء الذين أطلق عليهم نتنياهو اسم "بلوك اليمين". أمّا اليسار الصهيونيّ، الذي فاوض الفلسطينيين خلال "أوسلو" وما بعده، فقد كانت آخر أيّامه هي آخر أيّام كامب ديفيد وباراك. ولكن في الحقيقة لم تعط أي من هذه الدراسات الأهميّة اللازمة لتحويلها إلى مادّة تستطيع من خلالها قراءة المُستقبل وإنشاء مسارات سياسيّة مُختلفة تُحاكي التغيّرات في إسرائيل. بل أبعد من ذلك، بقيت مُتمسّكة بالنهج ذاته، وعمّقته، ووضّعت المزيد من أوراق القوّة القليلة المتبقيّة في حوزتها على طاولة المُفاوضات، التي لم يبق عليها سوى الفلسطينيين، الذين ما زالوا ينتظرون قدوم الإسرائيليّ الذي يرفض الجلوس، ويدعوهم مرّة تلو الأخرى إلى طاولات مُفاوضات اقتصاديّة وخدميّة مع الإبقاء على طاولة المُفاوضات السياسيّة فارغة.
في كُل انتخابات إسرائيليّة جديدة، تتمنّى القيادات الفلسطينيّة أن يكون القادم أفضل من الموجود والقائم. وفي الوقت الذي يُنكر فيه غانتس أي صلة له باليساريّة، بل يرى في "ميرتس" تطرّفًا يساريًّا، لا تزال القيادة الفلسطينيّة تفرض عليه "اليساريّة"، وبصورة أدق تبني خطّها وموقفها السياسيّ على تمنّيها بأن يكون غانتس يساريًا، وتأخذه نحو اليساريّة بتصريحاتها وتمنيّاتها التي يسجّلها نتنياهو لحشر غانتس في زاوية "اليسار"، فيرفض غانتس ذلك ويُنكره، وتستمر القيادة الفلسطينيّة بتعليق الآمال عليه مرّة أخرى، وتخلق مُباشرة كما نتنياهو: "يسار" و"يمين"، لأن هذه هي لعبتها التي لا تعرف غيرها، ولا تُريد أن تعرف غيرها على ما يبدو.
وعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينيّة لا تقول هذا مُباشرة، إلّا أن خطاب "إسقاط نتنياهو واليمين"، الذي تسير فيه دون أي حدود ودون أي تمييز بين من يقف مُقابل نتنياهو، يجعلها في هذا الموقع. ويشكّل مثلًا تعليق القيادة الفلسطينيّة على نتائج الانتخابات كُل مرّة بالقول "المجتمع الإسرائيليّ اختار اليمين ودفن فرص التسوية"، نوعًا من العمى السياسيّ، فاليمين ليس نتنياهو فقط، وهناك بنية يمينيّة كاملة فيها من هو أكثر يمينيّة من نتنياهو كيعالون، ويُنافس نتنياهو في ذات الوقت. والمُتابع، يلحظ أن هم السُلطة الفلسطينيّة مثلًا يتلخّص في إسقاط نتنياهو الذي يرفض الحديث معها أو إجراء أي مفاوضات. وهي جاهزة للحديث مع أي طرف إسرائيليّ يقبل الحديث، دون تحديد ماهيّة الحديث، وخط نهايته، وماذا يُريد؟ وهنا تحديدًا، تتغاضى هذه القيادة عن حقيقة أن غانتس مثلًا، يُريد الحديث، ولكن عن قضايا حياتيّة يوميّة اقتصاديّة، معلنًا أنه لا يقبل حتّى الحديث عن القضايا القوميّة مع القائمة المُشتركة.
هذا لا ينطبق فقط على السُلطة الفلسطينيّة، بل يتمد إلى الداخل الفلسطينيّ أيضًا، ويأخذ في أراضي 1948 صورة أكثر تطرفًا: لا يتوقّف أيمن عودة عن مُطالبة غانتس بأن يكون رابين، ولا يتوقّف عن طرح ذاته بأنّه توفيق زيّاد. ولعل هذا أكثر الأدلة الصارخة، على أن الفلسطينيين ومنذ أوسلو، لم يتخيّلوا السياسة في إسرائيل ما بعد "أوسلو". ولم يقوموا ببناء أي مسار بديل، ولو انحازت إسرائيل كليًا عن "مسار أوسلو والتسوية" فإن ما سنقوم به، هو مطالبتها بالعودة إليه. وهو ما يجعلنا أمام حالة سياسيّة فلسطينيّة، تتمنّى بعاطفيّة، تقرأ ما تُريد، وتُحلّل وفق تمنّياتها. وهنا تحديدًا، تسكُن أزمة المُستقبل: هذه الانتخابات هي الانتخابات الأولى في إسرائيل، التي تدور ما بين اليمين واليمين وسط غياب صارخ للصراع، فحتّى حين صارع "المُعسكر الصهيونيّ" نتنياهو في العام 2015، طرح نوعًا من أنواع الحل أو حتّى السعي لإيجاد حل. وهنا، وجب التوقّف عند تعامل غانتس و"كاحول-لافان" مع القائمة المُشتركة، لما فيه من دلالات على توجّهات الجنرال الذي يُنافس على رئاسة الحكومة. فمنذ نتائج الانتخابات، وموضوع المُفاوضات مع القائمة المُشتركة قائم وموجود: هل هي موجودة فعلًا؟ وماذا يدور فيها.
أوصت القائمة المُشتركة على غانتس لدى رئيس الدولة الإسرائيليّ رؤوفين رفلين، وفي الحقيقة فإن تعامل غانتس مع هذه التوصية وقبلها وبعدها، يُشير إلىى نظرته إلى كُل ما هو "غير يهوديّ" حسب ما قاله خلال مؤتمر صحافيّ. فخلال التوصية، توجّه رئيس الدولة إلى وفد "المُشتركة" وسأل إن كانت توصيتهم مشروطة، ليتبيّن أن غانتس لم يلتزم بشيء وجميع مطالبهم تشكّل مطالب حسن نيّة دون أي التزام من طرفه. أمّا بعد، وخلال جلسة المفاوضات الائتلافيّة مع المُشتركة، خرج ببيان يقول فيه "بحثنا في القضايا المدنيّة للمواطنين العرب، ووعد غانتس بمُعالجتها دون علاقة لسلوك "المُشتركة" في المُفاوضات أو التوصية"، مع الإشارة إلى أن غانتس أعلن عن رفضه لأي نقاش سياسيّ-قوميّ مع "المُشتركة".
وفي هذه التصريحات إشارة غاية في الوضوح: الأولى والمُهمة، أن غانتس يرفض الالتزام بأي شيء للمُشتركة، بل يؤكد أنه يُعالج القضايا كجزء من عمله وليس كصفقة مع قائمة عربيّة فلسطينيّة؛ الثانية، أن غانتس يرفض وحتّى بعد التوصية، أن يمنح المُشتركة نوعًا من أنواع الإنجاز مُقابل التوصية أو خلال المُفاوضات؛ الثالثة، أنّه يلتقي إلى حد بعيد جدًا، مع الرفض اليمينيّ باعتبار "المُشتركة" ممثلة للمواطنين العرب في الداخل، ويختصر وجودهم بالقضايا المدنيّة كما يفعل نتنياهو وغيره من أبواق وقيادات اليمين الإسرائيليّ. وهنا، مرّة أخرى، تتعامل القيادة الفلسطينيّة بمنطق "إسقاط نتنياهو" وكأن الأزمة شخصيّة مع نتنياهو، وليس مع البنية الأيديولوجيّة لليمين، التي لم يُنكرها غانتس للحظة واحدة. وهذا ما أكدته "المُشتركة" ذاتها خلال لقاء التوصية بالقول "غانتس ليس أفضل من نتنياهو، ولكنّنا نريد إسقاط نتنياهو". وهنا، وجب السؤال إن كان جدعون ساعر، المرشّح الأقوى في "الليكود" لخلافة نتنياهو، والأكثر أيديولوجيّة من نتنياهو نفسه، البديل، فما موقف هذه القيادة؟ هذا هو السؤال.
من مصادر خاصة، أعلم جيدًا أن ما قاله غانتس في الإعلام هو ذاته الذي قاله للقائمة المُشتركة من حيث عدم نيّته الالتزام بشيء، وأنه سيعالج ما يستطيع من موقعه كرئيس حكومة وليس من موقعه كمُلتزم لقائمة في الكنيست. وهو ذات الوضع الذي فيه لا يرى الصهاينة في القائمة المُشتركة عنوانًا لتمثيل العرب في السياسة الإسرائيليّة، وذلك لمواقفها بما يخص الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ. وهذا النهج، أي اختيار الممثّل لمواطنين محدّدين، ورفض آخر رغم تصويت ما حوالي 60% من المواطنين له، ليس غريبًا، ويشكل استمراريّة لليمين الإسرائيليّ، الذي يعتقد بكُل وقاحة أن له الحق في فرض شكل التمثيل الذي يختاره العربيّ. وكأنّه إن اختار اليهود بتسلئيل سموتريتش، المُدان بعمليّات ضد الفلسطينيين، فهذا جيّد لأن لليهود الحق في الاختيار. أمّا العرب، فإن اختاروا "حماس" ترفض إسرائيل وتعتقل المنتخبين؛ وإن اختاروا في الداخل القائمة المشتركة فإن إسرائيل تعتبرها قيادة غير شرعيّة ولا تتفاوض معها. هذا هو نفس النهج، يسير عليه غانتس ويسير عليه نتنياهو أيضًا. أمّا لماذا أوصت القائمة على غانتس في ظل هذه المعطيات جميعًا؟ فلا تفسير إلّا إسقاط نتنياهو بحسب تصريحاتها وتبريراتها.
في هذا الواقع الإسرائيليّ، يتحوّل السؤال بالنسبة إلى الفلسطينيّ من سؤال "من الفائز" إلى سؤال "أين نحن من الفوز والخسارة". ففي هذا الواقع، النتائج لا علاقة لها بالقضيّة الفلسطينيّة حرفيًا ورمزيًا. حرفيًا، تدور الانتخابات على أساس إقصاء الفلسطينيّ كقضيّة عن النقاش العام، ومن الواضح أن هذا يتم بصورة ممنهجة بحسب هندل الذي كان ولا يزال جزءًا من الدائرة القريبة على تشكيل ائتلاف "كاحول-لافان"، ويلتقي أيضًا مع ما أشارت إليه الأبحاث حول سياسة نتنياهو التي كانت تهدف إلى وضع إيران في واجهة الصراع مُقابل تهميش قضيّة فلسطين. ورمزيًا، حيث تدور الانتخابات دون طرح أي حل جدّي لقضيّة فلسطين والإبقاء عليها كجزء من ملحقات التغيّرات الإسرائيليّة اليمينيّة. وهنا، على القيادة الفلسطينيّة أولًا وآخرًا، البحث عن سُبل العودة إلى مركز اليوميّ الإسرائيليّ لتعود إلى كونها مركز الخارطة السياسيّة، والنقاش الأساسيّ.
[email protected]