مع استبعادي لإمكانية إجراء الانتخابات، إلا أنني توقعت أن المخاطر المتزايدة لاستمرار الوضع الراهن كما هو، وسياسة المناورات، واللوم المتبادل، من خلال محاولة كل طرف تحميل الطرف الآخر المسؤولية عن وقوع الانقسام واستمراره وعدم إجراء الانتخابات؛ ستؤدي إلى انزلاق طرفي الانقسام إلى عقد انتخابات لا يريدانها ، وهذا ما بدأ يحصل فعلًا، فالمزحة صارت جدية، وبدأت عجلة الانتخابات بالدوران. إن تصريحات إسماعيل هنية حول وجود توافق وطني لإجراء الانتخابات، وأن حركة حماس قدمت التنازلات "كرمال الوطن" مع بقاء بعض المتطلبات، بحيث تشكل الانتخابات "رافعة للمشروع الوطني ولتوفير عناصر القوة والصمود للشعب الفلسطيني، ومخرجًا للمأزق الراهن، ومدخلًا لتحقيق المصالحة"؛ بحاجة إلى وقفة ومحاولة للتفسير، فماذا وراء مرونة "حماس"؟ لقد وافقت "حماس" في جولة حنّا ناصر السابقة على تأجيل انتخابات المجلس الوطني، وعمليًا تنازلت عن تشكيل حكومة وفاق وطني أو حتى تعديل حكومة محمد اشتية حتى تشرف على الانتخابات، ولم تجعل شرعنة الموظفين الذين عينتهم وصرف رواتبهم خطًا أحمر، وكذا الأمر فيما يتعلق بعدم الإصرار على رفع العقوبات التي فرضتها السلطة على قطاع غزة. ووافقت مؤخرًا على القفز عن مبادرة الفصائل الثمانية التي أيدتها دون تحفظ (مع أنها تعاني من خلل جوهري يتمثل في عدم مطالبتها "حماس" بإنهاء سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة)، وعلى عدم تزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية، على أن تجرى بالتتابع بفاصل زمني لا يزيد عن ثلاثة أشهر متجاوزة قانون الانتخابات، ووفقًا للتمثيل النسبي الكامل. كما تراجعت عن عقد الاجتماع القيادي قبل المرسوم الرئاسي؛ أي أنها وافقت، أو على وشك الموافقة على رسالة الرئيس محمود عباس التي حملها ناصر، والتي تتضمن خارطة طريق لإجراء الانتخابات. راهن الرئيس وحركة فتح على رفض "حماس" لكي يُقلعوا عن إجراء الانتخابات، أو عقدها من دون "حماس"، لكنها فاجأتهم بأنها جاهزة. ولفهم ما يجري لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء. أعطت "حماس" منذ الانقسام الأولوية المطلقة لاستمرار سيطرتها على قطاع غزة، لذا طالبت بالدخول إلى منظمة التحرير عبر عقد وتفعيل الإطار القيادي للمنظمة مع استمرار تحكمها بالقطاع، وعندما رفض الرئيس بدعم من حركة فتح، وافقت "حماس" في اتفاق القاهرة العام 2017 على تمكين حكومة رامي الحمد الله، مع أنها لم تعد حكومة وفاق، مقابل دفع رواتب موظفيها المدنيين والعسكريين أو أقسام منهم، وذلك يعني احتفاظ "حماس" بمصادر السلطة في غزة وسلاح المقاومة، ما يجعل الحكومة مجرد طربوش، وهذا ما وضّحه قول هنية بأن "حماس" عندما حلت اللجنة الإدارية تنازلت عن الحكومة ولم تتنازل عن الحكم . كما سبق أن وافقت "حماس" على التخلي عن رئاسة الحكومة كما نص اتفاق القاهرة العام 2011، الذي يعتبر حقًا لها بحكم فوزها بالأغلبية في المجلس التشريعي، وتنازلت عما طالبت به - مع أنه وارد في الاتفاقات - عن تلازم نسبي بين تشكيل الحكومة وتفعيل المجلس التشريعي، وعن تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووافقت على تشكيلها برئاسة الرئيس وفق إعلان الدوحة العام 2012، ثم تغاضت عن تكليف شخصية مقربة منه لرئاسة حكومة وفاق وطني وفق إعلان الشاطئ العام 2014، رغم أنها لم تكن وفاقية تمامًا وعُدّلت أكثر من مرة. وتغاضت عن عقد المجلسَيْن المركزي والوطني بصورة انفرادية، وتشكيل المحكمة الدستورية، وحل المجلس التشريعي، وتشكيل حكومة فتحاوية برئاسة محمد اشتية. والأهم من كل ما تقدم، موافقة "حماس" على الاحتكام إلى الشعب قبل إنهاء الانقسام، ومن دون رزمة شاملة تضمن أن تصبح شريكة كاملة في السلطة والمنظمة. تأتي تنازلات "حماس" متناسبة مع تراجع عمقها الطبيعي، كما ظهر في تفكيك تحالفها مع إيران وسوريا وحزب الله في فترة موجة الربيع العربي بحكم كونها فرعًا للإخوان المسلمين وفق ميثاق العام 1988، وأنهت فيما بعد هذا الارتباط العضوي لصالح التمسك ببعد فكري إسلامي دون ارتباط عضوي بالإخوان المسلمين كما جاء في وثيقتها السياسية التي أعلنتها في أيار 2017. أي تلازمت تنازلات "حماس" مع هبوط وسقوط الإخوان المسلمين، خصوصًا في مصر، ومع بيئة عربية وإقليمية ودولية غير مناسبة، وفي ظل تبوء قيادة جديدة أكثر عمليّة وأقل إخوانية، وتعمّق مع اتضاح أن هدفها في التوصل إلى معادلة رفع الحصار مقابل هدنة طويلة الأمد ما يزال دونه فرط القتات، ما يرفع في ظل استمرار المعاناة الإنسانية الهائلة من احتمال حصول انفجار شعبي ضدها أكبر من حراك "بدنا نعيش"، ويزيد من احتمال وقوع مواجهة عسكرية في وقت غير مناسب. فعلى الرغم من أنها قادرة على تدفيع العدو ثمنًا لأي عدوان أو إعادة اجتياح القطاع إلا أنها تحسب حساب القوة التدميرية الهائلة التي يملكها جيش الاحتلال. ومن خلال الانتخابات يمكن تفادي أو تأخير مثل هذه الاحتمالات. وفي المقابل، يمكن أن تُفسر مرونة "حماس" برهانها على المتغيرات الجارية في المنطقة والإقليم والعالم، التي تعتقد محقّة أنها ستتغير لصالحها، ويمكن أن تغيّر الوضع خلال سنوات قليلة. الخلاصة: أبدت "حماس" مرونة كبيرة، لأنها تدرك أن مخاطر استمرار الوضع الراهن أكبر من مخاطر إجراء انتخابات، حتى لو كانت وفق رؤية الرئيس عباس. ويشجعها على ذلك أن احتمالية إجراء الانتخابات لا تتجاوز حتى الآن 50%. فلا تزال هناك العقبة الإسرائيلية المتعلقة بعدم السماح بإجراء الانتخابات بالقدس، والتدخل الواسع في كل مراحل الانتخابات ومصادرة نتائجها إذا لم تأت وفق ما يحقق المصالح الإسرائيلية، التي تتحقق باستمرار سلطة الحكم الذاتي، ومنحها الشرعية الشعبية، وما يعنيه ذلك من قطع الطريق، أو بالحد الأدنى إضعاف الخيارات والبدائل الأخرى، مثل حل السلطة وتداعياته، وتبني الدولة الواحدة، وتنفيذ القرارات المتخذة في المجلسين المركزي والوطني حول إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، وتعليق الاعتراف بإسرائيل، إلى جانب عقبة الالتزام بالاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال. ويعزز من مرونة "حماس" أنها بعد الانتخابات ستلقي مسؤولية قطاع غزة عن ظهرها، وتلقيه على الحكومة التي تأمل أن تتشكل بعد الانتخابات. وإذا جرت الانتخابات، تراهن "حماس" على أن مأزق خصمها حركة فتح لا يقل بل يزيد عن مأزقها، فبرنامجها فشل ولم تطرح بديلًا منه، بل لديها أمل يائس بإعادة إنتاجه، والتنافس إلى حد الصراع بين أجنحتها المختلفة حول المناصب والمراكز والنفوذ، وكذلك على الخلافة، وعلى قائمة فتح ومن تضم، ما يمكن جدًا أن يؤدي إلى خوض "فتح" للانتخابات بقائمتين، أو ثلاث، أو حتى خمس قوائم. ولا يُخفى على أحد، أن "حماس" رغم أنها تنظيم مركزي منضبط تعاني من خلافات واضحة وعلنية حول إجراء الانتخابات. أما إذا خسرت "حماس" الانتخابات رغم كل ما سبق، فهي تعتقد أن خسارتها لن تكون فادحة، بل ستشكل وحدها أو مع حلفاء فائزين محتملين أغلبية، أو تكون رأسًا برأس مع "فتح" وحلفائها، أو أقلية كبيرة، ما يعطيها شرعية، بحيث يصبح لدينا بعد الانتخابات سلطتان "شرعيتان"، وذلك، طبعًا، إذا جرت الانتخابات من دون إنهاء الانقسام تحت مظلة وفاق وطني مسبق أو متزامن مع إجراء الانتخابات، بحيث يشمل الاتفاق على الأقل سلاح المقاومة، والموظفين المدنيين والأمنيين الذين عينتهم "حماس"، والمستنكفين، وضمان احترام نتائج الانتخابات. وإذا فازت "فتح" من دون شراكة وطنية لن تستطيع أن تحكم غزة، لأن "حماس" تتحكم بكل شيء، وإذا فازت "حماس" فلن تستطيع أن تحكم الضفة حتى لو وافق الرئيس و"فتح"، فالاحتلال لها بالمرصاد. على "حماس" أن تستعد لتقديم تنازلات جديدة تتعلق بتشكيل محكمة الانتخابات، وتمرير خوض الانتخابات في ظل القمع وانتهاكات حقوق الإنسان والاعتقالات لناشطيها من السلطة والاحتلال، ومطالبة بقبول نصيحة السفير القطري محمد العمادي بأخذ العبرة من الانتخابات السابقة، و"عدم خوض الانتخابات برموزها وبذوي اللحى" حتى لا يتعرضوا للاعتقال. وهذا دليل آخر على أن الانتخابات من دون وفاق وطني لا يتوفر لها الحد الأدنى من الحرية والنزاهة واحترام نتائجها، وإذا استجابت "حماس" للنصيحة، وهي قد تستجيب لها، سترسل رسالة إلى الناخب أنها ليست البديل المناسب في هذه المرحلة على الأقل، ما يؤثر على فرص فوزها. ويضاف إلى ذلك أن النموذج الذي قدمته في الحكم لا يختلف كثيرًا عن خصمها، وأنها غلّبت الاحتفاظ بالسلطة على كل شيء آخر، وهذا كله ستدفع ثمنه في صندوق الاقتراع. قلنا ولا نزال نؤكد أن وحدة المؤسسات والوفاق، وتوحيد الرؤية والإستراتيجية في ظل الحفاظ على التعددية، واعتماد الديمقراطية التوافقية؛ هي المدخل لإجراء الانتخابات. فلا يمكن وضع العربة أمام الحصان وتوقع السير في الاتجاه الصحيح. فالارتجالية والتجريبية على طريقة "يا رب تصيب" أو "قد تصيب" ليست خيارًا يمكن الدفاع عنه، بل هي نوع من التلاعب بمصير الشعب والقضية. لا يزال هناك بصيص أمل لأن تكون الانتخابات خطوة في الاتجاه الصحيح من خلال توظيف الوقت المتبقي إلى حين إجرائها، يجعلها جزءًا من رزمة شاملة تؤدي إلى إنهاء الانقسام وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم الجميع، وإعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها وعلاقتها بالمنظمة، ضمن رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة تستند إلى القواسم المشتركة. وهذا احتمال ضعيف، لكن لا يمكن استبعاده كليًا. |
[email protected]