لم يعد خافيا على أحد أن عالم الصحافة والاعلام شهد تغييرا كبيرا في السنوات الأخيرة، قلب المفاهيم التي نشأنا عليها رأسا على عقب، كما انقلبت الأمور في جميع مرافق حياتنا، بتأثير الثورة التكنولوجية كذلك في الصحافة والاعلام.
فعلى صعيد التحول حصل تراجع كبير في مكانة الصحافة المكتوبة، التي فقدت تأثيرها ودورها المركزي، لصالح المواقع الألكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي التي احتلت مكانا بارزا في نقل الخبر اعتمادا على الصورة، مما أدى الى تراجع مكانة التلفزيون بشكل ملموس، حيث بات بإمكان أي شخص متابعة نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية من خلال جهاز هاتفه المحمول، بل والوصول الى أحداث تجري في أنحاء مختلفة من العالم بالبث المباشر لأي شخص يتواجد في مكان الحدث سواء كان عاما أو خاصا، فسقطت الحماية الشخصية ولم تعد هناك من كوابح أو ممنوعات، وباتت صور الأطفال تسطع في تلك الصفحات، وغالبا ما يقوم بها الأهل بعدما كان يتطلب نشر صورة طفل في صحيفة، اذنا خاصا من الوالدين وتعريضا للمساءلة القانونية.
رحم الله أيام الصحافة المكتوبة وحرصها على الكلمة والدقة اللغوية والإعلامية للخبر، عندما اعتمدت الصحف مدققا لغويا لها ينقح ويصحح ويشذب اللغة من الأخطاء التي يقع فيها المراسلون وبعض المحررين، أو اعتماد أحد المحررين المتخصصين باللغة العربية ليقوم بمهمة المصحح والمدقق الى جانب وظيفته الأساسية في التحرير، تلك كانت أيام الكلمة المكتوبة سيدة الموقف وعمدة الصحافة.
ولما انتقلنا الى عهد الانترنيت بعد عصر التلفزيون، الذي حرص الى حد كبير على صيانة اللغة، وباتت الوسائل الجديدة تصنف على أنها صحافة مرئية، تراجعت أهمية الكلمة ودقتها لصالح تقدم مكانة الصورة، واذا كانت الصورة تعادل ألف كلمة باتت الألف صورة تعادل كلمة، لأن الكلمة لم يعد لها وجود وأهمية وقيمة، فانتشر المصورون وحلوا محل المراسلين الصحافيين، وأمسى الاهتمام بالصورة في مركز الخبر وليس الكلمة، حتى أن بعض الأخبار تكاد تخلو من الكلام، واذا ما وجد الكلام تجد الاختلاف بين ما يحمله العنوان وما جاء في صلب الخبر. لنترك الأخطاء اللغوية الآن، لنقدم مثالا عما تجده في عنوان الخبر من معلومة تخالف ما ذكر في صلب الخبر، وخاصة في ذكر عمر ضحية حادث عمل أو قتل، فكيف يمكن حدوث ذلك؟ وهناك أمثلة أخرى، وكلها تعود الى اللهاث وراء "السكوب" أو السرعة في نشر الخبر دون التأكد من المعلومات والمضمون، في سباق مع المواقع الأخرى. والمتابع العادي ربما لا ينتبه لما يقرأ لأنه بات هو الآخر عبدا للصورة، يريد أن يرى الصورة ليعرف الضحية أو ليتأكد من معرفته بصاحبها، ويهتم بالصور المرافقة لتغنيه عن الخبر، فهو يمكنه من خلال مشاهدة الصور تكوين فكرة عن مكان الحادث وزمانه ولا يهمه الا مدى غرابة الحادث أو ما يهواه شخصيا. فتراه يمسك بهاتفه الجوال وينقله لجاره طالبا منه ان يدقق في المشهد اذا كان حادث سيارة أو ادخال كرة في المرمى او مخالفة أو أي مشهد غير عادي، ولا تسمعه مرة يقول اقرأ معي هذه الغلطة اللغوية أو ما هذا التعبير والصياغة وما شابه.
أمام هذا الوضع المتردي ومن أجل إعادة الاعتبار للكلمة المكتوبة أقدم اقتراحا عمليا، يتطلب تواضعا وشجاعة لدى أصحاب ومالكي الصحف الورقية، خاصة أننا نعلم ما آلت اليه حال الصحف المحلية القطرية، وهناك عدد لا بأس به من الصحف المناطقية، وكلها تعاني من التراجع والضعف مما يضر بواقعنا الإعلامي. المطلوب توحيد الجهود وتقليص عدد الصحف الى أدنى عدد ممكن، لبناء صحف قوية تعيد للصحافة المكتوبة مجدها وقوتها وتأثيرها، في بناء هيكلية واضحة وتوزيعة عمل مهنية، وضمان مقابل مادي لكل من يعمل ويساهم في تقدم ورقي الصحافة المكتوبة، وفي حال قبول الاقتراح يمكن الانتقال للجانب العملي ووضع المخططات المطلوبة.
[email protected]