شاهدونا في الخمسينات والستينات والسبعينات، شعب واحد متماسك صلب على المؤامرات. كنا شعبا لا تعرف طوائفه، ولا تعرف انتماء له غير وطنه. عصر عاش تحت خيمة القومية، في عهد عبد الناصر زعيم الأمة العربية. فيه رفع العربي فخرا رأسه، وارتفع مكانه وعلا شأنه. ووجد دعما وسندا من روسيا السوفييتية، وكانت مسيرة تحققت في الثورات التحررية. وأسقطت الشعوب فيها الاستعمار، وباتت هي صاحبة الدار والقرار.
ومع انقضاء القرن العشرين، ووفاة القيم التي عشناها سنين.. ومع ابتعاد يوم الأرض عن الذكرى، وافشال دروس هبة القدس والأقصى. بدأ الوسواس الخناس، يوسوس في "اعلام" الناس.. وساهمت المأجورة من أقلام، في الترويج لسياسة الحكام.. ماذا تفيدكم الوطنية وما لكم والقضية الفلسطينية، أنتم لكم قضاياكم وهمومكم اليومية، فاعتنوا بها واتركوا المطالب العمومية. واسألوا ماذا فعل لكم نوابكم، وبماذا مقاعد الكنيست تنفعكم؟ أنتم لستم شعبا واحدا وموحدا، أنتم مسلمين ومسيحيين ودروزا وبدوا. فليسع كل فريق الى مصالحه وليلهث من أجل نيل أغراضه. أبوابنا مفتوحة لكم أفرادا، واذا أتيتمونا حزمة لن تنالوا المرادا. وكي يزيدوا من شرذمتنا وتفريقنا، جاءوا ببدعة لاقت هوى في نفوسنا. أنتم شعب مركب من طوائف وعشائر وعائلات قبلية، فعليكم بالفرق والأحزاب فنحن في عصر التعددية.
واندس العميل والدخيل بين البيوت والحارات، أرسلهم المتحكم لينشروا السموم والمخدرات، ويخدروا الشعب بأفكار دخيلة، ويشوهوا تاريخه بمفاهيم عليلة. وكي يختل التعاضد والتمسك بين الجيران، انتشر السلاح في كل بيت وركن كما حمله الجبان. وبعدما كان يتفاخر به المتعاون في الأعراس، ويطلق أمام الخلق مباهاة الرصاص، بات القتل يوميا يدمر أخلاقنا، فانهارت وحدتنا واخترقت صفوفنا، وبتنا كالأيتام على موائد اللئام، وصرنا نحسد تنظيم عالم الاجرام.
وانزعجوا من وجودنا وتكاثرنا، فلجأ العنصري الى قطع حضورنا. وتجاوزنا الضربة بالترفع عن الصغائر، ونضجت أحزابنا عن الكبائر. ودخلنا في مرحلة المشتركة، وكانت الوحدة من علامات البركة. لكن عز مرة أخرى على السلطان، أن نسطر صفحة تنقض الرأي السائد عن العربان. فأرسل ثانية الينا ذلك الوسواس، فاستقبله بالترحاب غالبية الناس، بعدما خدعوا من الجحر مرتين، لأنهم باتوا قليلي الايمان. فاذا المشتركة أخطأت مرة، فان الجمهور أخطأ بالعشرة.. وعدنا مرة ثانية نردد ما كتبوه، وننفذ بأيدينا ما لنا أعدوه. وبعدما انطلت علينا مقولتهم عن القطيع، أعملوا فينا ما تمكنوا من تقطيع، عائلي/ طائفي/ قبلي/ مذهبي/ ومصيبتنا أننا ندري، ولا نحتاج الى برهان أكبر على ما يجري.. وانتقلوا الى تقطيع من نوع ثاني، طعن/ اطلاق رصاص/ تشويه/ قتل واخفاء الجاني.
والمصيبة الكبرى أن التشرذم دخل من عيوبنا، فانشغلنا عن الأساس من أمورنا، وذهب كل يبحث عن نجومية، فازدادت لدينا الحزبية. وكل يبحث عن مقعد أول، فهو الذي يعلم وغيره يجهل. فتضاعفت عندنا الانقسامات، لدرجة انهيار الأساسات، ونفر الجمهور من تلك التشرذمات، فعاد الاتفاق بين المركّبات. وكانت النية وضع حد للتقطيع، علّ وعسى أن يعود لحظيرته القطيع، وتكون بذلك مرحلة خير للجميع.
[email protected]