لا بد من البدء بأن "صفقة ترامب" تحمل احتمالات الفشل كما إمكانيات النجاح، وأكبر ما يهددها بالفشل تطرفها الكبير لصالح إسرائيل من دون إعطاء شيء للفلسطينيين سوى وعد كاذب بـ"الازدهار الاقتصادي"، مقابل إدامة الاحتلال والحكم الذاتي تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لدرجة قيام صهاينة خبراء في الصراع من كتّاب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أمثال دينيس روس، وروبرت ساتلوف، وديفيد ماكوفسكي، بالتحذير من إمكانية أن تقود الخطة إلى الكارثة، ويطالبون بتعديلها لتتضمن إقامة دولة فلسطينية.
ولا بد من إدراك أن الخطة المطروحة هذه المرة، مع أنها تنطلق من نفس المنطلقات وتستهدف تحقيق نفس الأهداف المعتمدة أميركيًا منذ تأسيس إسرائيل، ليست استمرارًا للخطط السابقة، بل تُشكِّل خروجًا كاملًا عن قواعد اللعبة السابقة، فليس مطروحًا التفاوض فيها والتوصل إلى تسوية، وإنما تسعى لفرض الحل الإسرائيلي بذريعة أن الواقع الذي أقامته إسرائيل هو المرجعية الوحيدة، وبالتالي المطروح محاولة جادة لفرض حل بالقوة، واستكمال خلق الحقائق على الأرض، ودمج إسرائيل في المنطقة لإيجاد "الشرق الأوسط الجديد" الذي طالما سعت الإدارات الأميركية لإيجاده.
وما أود قوله فيما سبق أن المؤآمرة التي تسمى "صفقة ترامب" ليست بحاجة إلى توقيع فلسطيني في مراحلها الأولى، فهي عملية طويلة تشكل استمرارًا لما شهدناه طوال عشرات السنوات من استمرار سعي المشروع الصهيوني لتطبيق أهدافه، فهو لم يغلق، بل يواصل تحقيق أهدافه بإقامة "إسرائيل الكبرى"، عبر ضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد ممكن من السكان.
وعلى الرغم بقاء القضية حية بدليل بقاء نصف الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، والأزمات التي تعاني منها إسرائيل، إلا أن المخاطر التي تهددها الآن غير مسبوقة، فلا بد من استخلاص الدروس والعبر، والتراجع عن التنازلات الكبرى التي قدمت، وتغيير النهج السابق تغييرًا جذريًا. وهناك مخاطر بنجاحه في تحقيق أهدافه، مثلما هناك طبعًا آمال عظيمة بإحباطه.
في هذا السياق، المشاركة الفلسطينية الرسمية ليست متوقعة من أصحاب "الصفقة/المؤآمرة"، لذلك بدأوا بنقل السفارة، ومحاولة تصفية قضية اللاجئين، وإقرار قانون "القومية" العنصري وغيره كثير. ووصل الحال الفلسطيني إلى درجة من البؤس بعدم دعوة القيادة الفلسطينية لحضور ورشة البحرين، والاستمرار في مخططات عقدها حتى كتابة هذه السطور، فضلًا عن استخدامهم الرفض الفلسطيني وإمكانية استخدامه لتبرير اتخاذ المزيد من الإجراءات والعقوبات والقرارات التي تسعى لتحقيق أهداف الخطة.
والآن، فإن الخطوات القادمة المتوقعة هي مواصلة السعي لتصفية قضية اللاجئين عبر توطينهم في أماكن لجوئهم، وتهجيرهم من جديد، وإلغاء وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، واستكمال تغيير السلطة لتصبح بالكامل وكيلًا للاحتلال، وبلورة بديل فلسطيني أو عربي عن منظمة التحرير الفلسطينية، وتعميق الانقسام الفلسطيني، وضم أجزاء من الضفة المقامة عليها المستعمرات الاستيطانية، كخطوة أخرى على طريق ضم كامل المنطقة المسماة (ج) التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة، على أن يتم تهجير المزيد من الفلسطينيين "طوعًا" هربًا من الجحيم الذي يعيش به الفلسطيني داخل وطنه، أو قسرًا حينما تتوفر فرصة مناسبة للتهجير.
بعد هذه المقدمة الضرورية، أنتقل إلى الإشادة الواجبة بموقف الإجماع الفلسطيني الرافض للخطة الأميركية الإسرائيلية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، إلّا أنّ هذا الموقف وحده غير كافٍ، وقد لا يكون قادرًا على إحباطها، وإذا أحبطها لن يكون قادرًا على إزالة الوقائع التي أوجدتها، وقد يقود إذا لم يبنَ عليه بديلٌ متكاملٌ وإستراتيجيةٌ جديدةٌ إلى التكيّف معها، أو الأصح مع الوقائع والحقائق التي أقامتها، ويمكن أن تقيمها، وصولًا إلى قبولها.
لا أبالغ بالقول إن الموقف الفلسطيني على شجاعته يعاني من الشيزوفرينيا، كما يظهر من البدء في البداية بتشجيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على طرح "صفقته"، لدرجة أن الرئيس محمود عباس كان يعتقد، كما قال بعظمة لسانه، بأن لقاءه الأخير بترامب على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في أيلول 2017 لو استمر نصف ساعة إضافية لتوصلنا إلى حل شامل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ليفاجئ سيد البيت الأبيض الجميع بالإعلان عن قراره بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وما حدث بعد ذلك تباعًا.
تظهر الشيزوفرينيا ليس عند القيادة فقط، وإنما تمتد إلى العديد من القادة من خارج المنظمة والمحللين الفلسطينيين، الذين يصل بعضهم إلى أن أميركا وإسرائيل دخلتا في مرحلة الهزيمة والدفاع الإستراتيجي، بدليل التعددية القطبية في العالم والمنطقة والتراجع الأميركي المتصاعد، وهذا صحيح بدرجة ما، ولكن من دون مبالغة فيه، لأن الولايات المتحدة لا تزال أقوى دولة في العالم وأحد اللاعبين الرئيسين، واللاعب الأقوى في المنطقة رغم تراجعها.
وتظهر الشيزوفينا تلك في اعتبار أن "الصفقة" "ماتت قبل أن تولد"، أو "ولدت ميتة"، أو أنها "حتمًا ستفشل"، أو أنها "باتت في مهب الريح"، أو "صفقة القرن القادم"، أو "ها هي تتبخر بطريقة مخجلة وتلفظ أنفاسها الأخيرة"؛ وبين القول أنها طُبِّقَت قبل أن تُعلن رسميًا، أو طُبِّقَ الجانب السياسي ويبقى الجانب الاقتصادي، والبعض حدد نسبة التطبيق من خلال القول إنها طبقت بنسبة 70%، أو أن عناصرها الرئيسية باتت موضع التنفيذ العملي، وما بقي خافيًا من عناصر الخطة ليس سوى الجزء الثانوي منها، وبخاصة وجهها الاقتصادي.
وما يشجع على إعلان وفاة "الصفقة" حل الكنيست الإسرائيلية والدعوة إلى انتخابات جديدة، كونه يعني تأجيل طرحها، أو طرح الجانب السياسي منها إلى أواخر العام القادم، ولعل تشكيك مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، بإمكانية نجاح الخطة، يشجع من سارعوا بإعلان وفاتها، متناسين أن الخطة أقامت حقائق على الأرض، وحققت اختراقًا عربيًا خطيرًا جدًا، وخصوصًا بعد تفهم ترامب لشكوك وزير خارجيته، مع إصراره على أنها واعدة، وأنها ممكن أن تتوصل إلى السلام في المنطقة.
بالله عليكم كيف ماتت وأصبحت صفقة القرن القادم وطبقت في نفس الوقت، وهذا يرد على لسان نفس الأشخاص!
لا غرابة في ذلك، فالعقل السياسي الذي يقف وراء هذا يعتقد أنه يغيّر الواقع من خلال تفاعل الفكر مع الفكر والسياسة مع السياسة، أي أنّ التغيير عنده عمليةٌ ذهنيةٌ منفصلةٌ عن الواقع، وهذا يعكس محاولة للتغطية على حالة العجز عن الفعل، والاكتفاء بردود الفعل، في حين أن التغيير في الحقيقة يأتي من المبادرة والمثابرة لتغيير الواقع، من التفاعل بين الفكر والواقع.
وبالتالي، ليس الأمر الأهم رأي الفلسطينيين بالصفقة على أهميته، بل ما تمثله في الواقع من حقائق وعلاقات وموازين قوى وفرص للتحقق، وهذا أمر تتأتى إمكانية معرفته من خلال دراسة الواقع بكل العوامل والمتغيرات التي تؤثر فيه، ورؤية الاحتمالات، أو كما يقال السيناريوهات المختلفة، وتحديد نسبة واحتمالية حدوث كل سيناريو، وكيفية بلورة الخيار الأفضل والعمل من أجل تحقيقه، وإذا تعذر كيف يمكن المساعدة على تحقيق الخيار السيئ وقطع الطريق على الخيار الأسوأ.
تأسيسًا على ذلك، نشدد على أهمية توفير متطلبات إحباط المؤآمرة الحالية، التي تندرج في سياق المؤآمرات المستمرة لتصفية القضية الفلسطينية منذ ما قبل "صفقة ترامب" وستستمر بعدها، وعلى رأسها تحقيق الوحدة الوطنية على أساس بلورة رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة تتوفر لها الإرادة اللازمة، ولكن من دون تأخير تحقيق كل ما يمكن تحقيقه إلى حين تحقيق الوحدة، بل لا بد من العمل بشكل متزامن ومتوازٍ، بحيث يتم العمل من أجل الوحدة مع توفير كل ما من شأنه تعزيز عوامل الصمود والوجود على أرض فلسطين، وتوفير متطلبات مقاطعة ومقاومة شاملة للاستعمار الاستيطاني التي تزرع، حتى يقوم العمل السياسي بالحصاد، ومن لا يزرع ويراكم لا يحصد.
أمر آخر لا بد من تسليط الأضواء عليه، وهو أحد جذور وأسباب الشيزوفرينيا، وهو الخلط بين الرفض الفلسطيني وعدم توفير الغطاء الفلسطيني للصفقة المشؤومة، وهذا أمر في منتهى الأهمية، لأنه يمنع إقامة العرس بلا عريس فلسطيني، وبين ما يجري على الأرض من خلق حقائق استعمارية واستيطانية وعنصرية واحتلالية تهدف إلى جعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا، ما يعني أن الرفض على أهميته البالغة لا يكفي، بل يجب أن يستند إلى بديل يسعى لمراكمة وقائع على الأرض معاكسة للوقائع التي تخلقها الخطة الأميركية الإسرائيلية.
لتوضيح ما أقصده، أقول إن قيام إسرائيل استنادًا إلى قرار التقسيم، لم يحظَ بقبول فلسطيني، بل جرى رفضه والدعوة لإزالته لسنوات طويلة، إلى أن قامت القيادة الفلسطينية في اتفاق أوسلو بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، والعيش بأمن وسلام، من دون أن تعترف إسرائيل بأي حق من الحقوق الفلسطينية، ما دفع البعض حينذاك، ويدفع البعض حاليًا إلى القول: لماذا لا تقبلون الانخراط في "صفقة ترامب"، والمشاركة في ورشة المنامة، على أمل "تحسينها" أو "إحباطها من الداخل"، وهذا "أفضل من الرفض والمقاطعة حاليًا"، و"التكيّف ثم القبول لاحقًا" ولكن بعد خراب البصرة.
لا يمكن أن تكون المشاركة بخطة ترمي بوضوح كامل إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، وفي ظل استشراء النزعات والتيارات المتعصبة والمتطرفة والتوسعية والعنصرية في إسرائيل والولايات المتحدة، وفي ظل موازين قوى وأوضاع عربية مختلة، خيارًا مطروحًا للنقاش، لأنه يتعامل مع الخيانة باعتبارها وجهة نظر.
المطروح بلورة بديل متكامل لا يكتفي بتحديد ما يرفضه الفلسطينيون وأشقاؤهم وأصدقاؤهم، وإنما يتضمن ما يقبلونه، بحيث تكون إعادة الإعتبار لبرنامج الحد الأدنى الوطني، أمر لا يقل أهمية عن رفض "الصفقة"، فلا بد من إقامة جبهة فلسطينية عربية إسلامية مسيحية عالمية تطالب بأهداف قابلة للتحقيق، وتتعامل مع الأمر الواقع لتغييره لا للخضوع له، ولا إعادة إنتاج "أوسلو"، وتستقطب دعمًا عربيًا وعالميًا واسعًا لكونها منسجمة مع القانون الدولي والشرعية الدولية.
أما الرفض والعودة لمطلب التحرير الكامل كمطلب الآن، أو استبدال برنامج إقامة الدولة والمساواة والعودة على أساس أن الدولة الفلسطينية باتت مستحيلة التحقيق بحل الدولة الواحدة الأكثر استحالة، فهو يساعد الأعداء على تحقيق أهدافهم بتكاليف أقل، ودليل على خطأ منهجي يتصور إمكانية تغيير الواقع عبر تناسل الفكر من الفكر، وليس عبر تفاعله مع الواقع بهدف تغيير موازين القوى، بما يسمح بتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من دون التنازل عن الحقوق، ولا عن الهدف النهائي للصراع، بعيد المنال حاليًا، ولكنه وحده الذي يلبي الحقوق الكاملة الطبيعية والتاريخية والقانونية الفلسطينية.
وفي الختام، فإن التقدير المناسب واختيار التوقيت الملائم، بعد إعادة الاعتبار للمشروع الوطني وأداة تجسيده منظمة التحرير الموحدة، هما كلمة السر للتقدم على طريق الانتصار في اللحظات التاريخية التي نعيشها الآن، فلا يمكن إذا بالغت في قوة عدوك أو قللت منها أو اخترت التقدير أو التوقيت غير المناسب لخوض المعارك ولم تثابر لاكتمال توفير الشروط اللازمة أن تنتصر عليه.
[email protected]