أعدّوا طريقًا ِللنورِ
"لا شكَّ أنّ تطوّر وسائل الإعلام، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي- مثل الفيسبوك- كان لها أكبر الأثر على الأدب المنشور فيها. هذا التأثير فرض سمات جديدة على القصيدة الفيسبوكيّة، إلى جانب المكّونات الموجودة سابقًا في القصيدة الورقيّة. هذه المكوّنات جعلت الكتابة شعبيّة بحيث خرجت من الأبراج العاجية للكتاب، ولم تعد الكتابة حكرًا على فئة قليلة في المجتمع." هذا ما كتبه د. فؤاد عزام في خلاصة مقالته حول " شعريّة القصيدةِ الفيسبوكيّة".
التقيت يوم الثلاثاء 21.03.2019 ضمن إفطار رمضانيّ رتّبه منتدى الكلمة (هو منتدى أدبيّ ثقافيّ شامل يهدف إلى خلق حراك ثقافيّ أدبيّ في مجتمعنا، من خلال نشر إنتاج الأدباء والشعراء في وسائل التواصل الاجتماعي، عقد الصالون الأدبيّ شهريًا، إقامة أمسيات ثقافيّة، أدبيّة، وشعريّة في مجتمعنا العربي وإصدار كتب تحتوي على إنتاج الأُدباء أعضاء المنتدى. يلتزم المنتدى بقضايا شعبنا الوطنيّة، دون الانحياز لأي تيّار سياسيّ، اجتماعيّ أو دينيّ، يحترم التعدّديّة ويتيح التعبير الحُرّ بأسلوب حضاريّ معتمدًا الحوار، يمنع النقاش الشخصيّ وما يرافقه من تجريح او تكفير او تخوين) بالشاعر السخنينيّ يوسف مفلح الياس وأهداني ثلاث إصداراته الشعريّة: "رسالة السِّندباد"، "ويحملني الكلام" و"أعدّوا طريقًا ِللنورِ" وكلّها من إصدار منتدى الكلمة.
يوسف ليس من "شُعّار الفيس بوك" الذين يطلّون علينا كلّ صباح و/أو مساء عبر صفحات
التواصل الاجتماعي يستجدون الإعجاب المشبوه واللايكات، ولقصائده مذاق آخر آخذني لشعر الزمن الجميل.
يحتوي الديوان الأخير: أعدّوا طريقًا ِللنورِ 13 قصيدة (مُلحقة بترجمة للغة العبريّة قام بها د. نبيل طنوس، الذي أضاف بدوره إضاءات على القصائد ودراسة عنوَنها: "موتيفات مسيحيّة في شعر يوسف مفلح الياس").
جاء شعره مباشرًا وشعاراتيًا بعض الشيء في ديوانه الأوّل حين تغنّى بعشقه للغته، أنشد لصبرا (في ذكرى مجزرة صبرا وشتيلا)، رثى شاعر العروبة سميح القاسم ومحمود درويش، غنّى ليوم الأرض الخالد وللشام الجريح، صرخ ضد التجنيد، ولم ينسى حيفا وسخنين والقدس وبغداد، وأهدى العامل أغنية في عيده ودفع ضريبة المنصّات في قصيدته "خِطاب المنصّة":
"وعلى المنصّةِ راح يصرخُ
يرفع اليمنى...يهزُّ الرأسَ
يطربُ حين يسمعُ
أنتَ للحقِّ لسانٌ
واضحٌ كالسَّيفِ قاطع
صارعتَ من أجلِ الذي
سَلبوه طعمَ الخبرِ
طعم النَّومِ... طعمَ العيشِ"
أمّا ديوانه الثاني فكان قفزة نوعيّة ومقولة تحرريّة واثقة وثاقبة: "أنا شاعر، شاء من شاء وأبى من أبى!" فتغنّى بالشعر، بالكلمات والكلام، بالكتابة والقول، ليكتب نصًّا:
"سأكتب نصًّا ينادي سلامًا
لكلِّ الشعوب يقولُ، كفانا
دمارًا وقتلًا، كفانا حروب
سأكتب نصًّا يُنيرُ الدروبَ
بهمسةِ حُبٍّ يسرُّ القلوب
.....
سأكتب نصًّا يليقُ يُغنّى
بكلِّ اللغات
لعلّيَ أحظى بباقةِ وردٍ
بعيدَ الممات"
جاءت قصائده ناضجة تبعث الأمل والطمأنينة حين أنشد لأذار، الأمل، البسمة والثقة والحزم مع "رحلة إيزيس"، ويبعث التفاؤل بتحقيق الأحلام في قصيدته "نورٌ ومصباحُ وزورق" لينهيه برائعته "يخشى عليها":
"يخشى عليها
لا يطالبُها بردٍّ عن سؤالٍ
يجمعُ الأنفاسَ يقرأُها
كطفلٍ يقرأُ الملماتِ
في صدرِ الجريدة
يخشى عليها، كيف لا؟
وهي التي قد حرَّكتْ من نظرةٍ
ماءَ البحيرةِ أزهرتْ في كفِّها
هذي القصيدَة"
في ديوانه الثالث " أعدّوا طريقًا ِللنورِ " نجح يوسف في الانطلاق، محقّقًا قفزة نوعيّة واضحة ليرمي عرض الحائط تلك القيود المكبّلة والشّعاراتيّة المباشرة. كتب الشعر العموديّ وشعر التفعيلة، لجأ إلى الرمزيّة والحداثة.
لفت انتباهي أنّ خمس قصائد من الديوان سبق وصدرت في ديوانيه السابقين؟!؟، وقصائد الديوان تعبق بالرموز المسيحيّة، تنادي بالمحبّة والسلام، نصيرة للمرأة وتنضح بالموتيفات الدينيّة كالنور والمصباح والضوء. يميل الشاعر إلى الصوفيّة لتصير جزءً بنيويًا من القصيدة ويصبح للورد لغته الكونيّة الخاصّة به، ينادي بالتسامح ليتساءل ما قيمة الكلمات:
"ما قيمة الكلماتِ
إنْ جاءت تُردِّدُ ما سمعْنا، ما قرأْنا؟!
كم مللنا من كلامٍ قيلَ قيل
ما قيمةُ الكلماتِ
إن سارت بلا عينينِ
في نفقٍ ضبابيٍّ طويل؟!
.....
ما قيمة الكلماتِ
إن وُلِدت صباحًا
ثمَّ ماتت والمساء؟!"
ولهذا يصرّ أن يكتب، ليعود ويكتب، ويكتب نصًّا، ليكفّر عن ذنبه قبل أن يُسلم الروح، ويصل ذروته في رائعته "رمزيّة الثلج":
"للثلجِ لونان:
لونٌ يُبشّر بالطفولة، بالسعادة، بالحياة؛
لونُ يثير الحزن والشكوى؛ يذكِّر بالممات.
....
الثلج ثوبان:
ثوبٌ تميس به العروسُ.. تألّقي يا شهرزاد،
وعباءةٌ للذاهبين بلا رجوعٍ للرُّقاد.
الثلجُ عند الحالمينَ قصيدةٌ!
الثلجُ عند العاشقينَ حكايةٌ!
الثلجُ عند النازحينَ مُصيبتان! "
لفتت انتباهي لغة الشاعر الانسيابيّة، شاعريّة وموسيقيّة بتلقائيّة عفويّة، بعيدة عن المجمّلات اللغويّة المصطنعة والمقيتة، وشدّ العضلات، وشتّان ما بينها وما بين "الغوغلة" التي ينضح بها الشعر الفيسبوكّي الذي غزا عالمنا بفظاظة لا تُحتمل!
إصدار الديوان باللغتين، العربيّة والعبريّة، خطوة جريئة ومباركة لإيصال صوتنا للآخر، دون مواربة وتأتأة، وخاصّة حين جاءت الترجمة على يد مترجم متمرّس ومتمكّن بكلتا اللغتين، وهو القائل: "إن للترجمة دورًا هامًّا جدًّا وضروريًّا في عملية التثاقف بين الشعوب المختلفة، وهي بمثابة وسيلة للتفاعل مع الآخر الذي يتكلم لغة أخرى... هي وسيلة للتواصل ولبناء علاقات إنسانيّة سليمة، وأعتبرها جسرًا يربط بين الشعوب والفئات ويقرّب بينها، فهي تؤدي إلى التفاعل بين الثقافات المختلفة... وعلى المترجم التعرّف إلى قيم وعادات وتقاليد وأنماط سلوكيّة، وعقليّة متحدّثي اللغة" هذا ما كتبه صديقي د. نبيل طنوس في مقالة له بعنوان "دليل المترجم من طاولتي".
حسن عبادي
[email protected]