دائِمًا يطل علينا الباحث والشاعر والناقد والقاص ، صالح أحمد كناعنة، بالجديد النافع للقارئ العربي ، وللمكتبة العربية ، كتابه الجديد، تحت عنوان: "المذهبية في الأدب العربي القديم" الصادر عن دار السكرية للنشر والتوزيع -مصر- القاهرة، بإدارة محمد سلامة، يقع الكتاب في 184 صفحة من الحجم الكبير، طباعة أنيقة، تصميم الغلاف فلاح عيساوي، الكتاب عبارة عن دراسة جدية يتناول الأدب العربي وأعلامه من العصر الجاهلي حتى العباسي، توقف بعمق حول قضايا أدبية وفلسفية، ويناقش المذاهب الرئيسية في الادب العربي، يستخلص النتائج ويقدمها للقارئ على طبق من ذهب، يرتكز في بحثه العميق على عشرات المراجع الهامة على آراء الكتاب والنقاد، على أمّهات الكتب، وفي الأساس يعتمد على المصادر الأولية، على ما كتبه الشاعر والكاتب نفسه، يرفق لنا مقتطفات من الشعر الجميل من الحكم والعبر .
الغرض من الدراسة :
يكشف لنا المؤلف صالح أحمد كناعنة في مقدمة الكتاب الغرض الصريح لتأليف كتابه: "رأيت أن أُقدِمَ على هذا العمل المتواضع، في محاولة لبعث روح جديدة في دراسة الأدب العربي القديم بحيث ترتكز أساسًا في البحث عن روح الكاتب الشاعر، على قدرته على خلق الصور والتوحد معه، على قدرته على خلق إطار وجو من التّمَيُّز الشخصي من خلال نصوصه، بحث يستشعر القارئ روح الشاعر من خلال شعره، بغض النظر عن الموضوع أو المعنى العام والمجرد، فالموضوع والغرض والمعنى... ليست بحاجة إلى دارس أو ناقد ليدل القارئ عليه، وكما بين الجاحظ؛ وإنما روح الشاعر وشاعريته وإحساسه وخياله وقدرته على إبداع وخلق الجديد المبتكر من الصور والأخيلة والآفاق التعبيرية والفكريّة... وذلك ما يحتاج إلى دراسة وشرح وتحليل وبيان... جل ما أطمح إليه أن أكون قد وفقت إلى فتح باب جديد لدراسة الأدب القديم وبشكل عصري وعلمي، ووفق روح المذهبية، دراسة تستجلي روح الكاتب، ولا تقف عند حدود اللفظ والمعنى الحرفي، والغرض السطحي المجرد، بل المكشوف والساذج"
من هنا يتضح لنا أن الباحث صالح أحمد كناعنة، لا يدلو بدلوه في عالم النقد الأدبي فحسب، بل جاء ليقلب النظريات والدراسات التي تناولت الادب القديم رأسا على عقب، تلك النظريات التي تشير إلى أن الشعر العربي القديم مجرد ألفاظ، وأغراض محدودة مثل المدح والهجاء وتمجيد القبيلة وغيرها من أغراض الشعر المتعارف عليها عبر العصور، جاء ليمنح الشعر العربي القديم حقه المسلوب، لينصف العديد من الشعراء والكتاب، ويدحض الهالة الكبيرة التي أحاطت وتحيط ببعض الشعراء...
البحث جاء ليضع الأمور في نصابها، وينصف أصحاب الأقلام الجادة، ويبيّن جهدهم وأثرهم على الحركة الأدبية حتى يومنا هذا..
صالح أحمد كناعنة في كتابه يحاول إعادة قراءة الشعر العربي القديم، بأسلوب جديد، يتلاءم مع روح العصر، يتّكأ على ثقافته العميقة واطلاعه الكبير على الأدب القديم وأمهات الكتب، وعلى تجربته الغنية في الشعر والنثر والقصة والبحث الأدبي والفلسفي وثقافته الدينية الواسعة وعلى حدسه وتحليله الشخصي... يحاول تأسيس مدرسة خاصة في التعامل مع روح الأدب وروح الشعر (ص 11) يقول الكاتب: "ليس الشعر العربي الجاهلي مجرد شعر رعاة ساذجين، لا يتقنون من الحياة سوى الوقوف على الاطلال، ووصف ما يرونه في الطريق، ومدح الملوك للتكسب، وغير ذلك مما يدرج تحت ما اتفق على تسميته بأغراض الشعر العربي، بل هو شعر راق ومتطور، يزخر بالصور الفنية الراقية التي تصدر عن نقس ذواقة وحس راق، وشعور مرهف، ونفسية منسجمة، مع بيئتها انسجاما تمازجيا حسيا ووجدانيا ساميا، تعبر عن حياة ثرية الموراد والمقاصد، تحفل بموروث عظيم من الأساطير والخرافات، والمعتقدات، مما أكسبه بعدًا أسطوريًا فريدًا"
من خلال كتابه يدخلنا المؤلف إلى عالم الشعر من أوسع أبوابه، يحاول تصنيف المذاهب الشتى وفق منهجية واضحة يدعم استنتاجاته، يستشهد بأقوال الشعراء أنفسهم، يتناول الشعر الجاهلي ويخلص إلى أن في الشعر الجاهلي مذاهب أربعة:
-
المذهب الحماسي: المرتبط بالفروسية والغزو وتحقيق أمجاد القبيلة.
-
المذهب البلاغي: المرتبط بحب البلاغة والتنافس البلاغي.
-
المذهب الحكمي: المرتبط بحب الحكمة الموجز، والتطور الفكري الطامح للمثالية العقلانية والسلوكية.
-
المذهب الحماسي :
يندرج تحته كل ما وصلنا من قصص الزير سالم، وبني هلال، وعنترة، وما زخرت به قصص أيام العرب، مثل معلقة عنترة العبسي وأخباره، وعمر بن كلثوم التغلبي وغيرهم.
أما في صدر الإسلام فيقسم الكاتب المذاهب إلى:
-
الوجدان الغريزي
-
الوجداني العقائدي
-
الوجداني العقلي
-
المذهب اليقيني
-
المذهب الأخلاقي
-
المذهب التعبيري
-
المذهب العقلاني
-
المذهب الحماسي
-
المذهب الروحاني
أما في العصر الأموي:
-
المذهب الزهدي
-
المذهب الرومانسي ( توجه عذري ، توجه جمالي)
-
المذاهب الفكرية الفلسفية العقدية.
العصر العباسي: يطلق عليه عصر القمة
-
المذهب العبثي
-
المذهب الجمالي الحسي
-
المذهب الجمالي الذهني
-
المذهب الجمالي التصويري
***
- نزعة الاستدلال العقلي عند الجاحظ :
يناقش الكاتب فكر وفلسفة ومذهب الجاحظ، ويخلص إلى نتيجة مفادها: "يعتبر الجاحظ أستاذ المدرسة النثرية في العصر العباسي، بل وسلطانها، فهو الذي جعل للنثر الفني والأدبي والعلمي مكانة مرموقة بعد أن كان مقصورًا على الخطب والرسائل والترجمات، وهو إلى ذلك رائد الجدلية الفكرية الأدبية في العالم العربي. الجاحظ بلغ بالنثر مراقي الجدلية العقلية والفكر الاستقرائي، والتعبير الأدبي الراقي والمميز ليستوعب كل أجناس الأدب ،من قصة وأحجية وطرفة وسخرية وجد وهزل ورزانة... وصولا إلى الفلسفة الجدلية، والاستقراء العلمي.. ليصل من الفرضية إلى البرهان، ومن الشك إلى اليقين... فالجاحظ موسوعة عصره فكرًا وأدبًا، مهارة وعلما وثقافة".
-
ابن سينا ومنطق اليقين :
يتناول الكاتب فكر ابن سينا، ويركز على كونه شاعرًا وأديبا لا يقل عن كونه فيلسوفًا: "كان اهتمامه بأن بكون شاعرًا، لا يقل عن اهتمامه بأن يكون فليسوفًا، بل لا يرى فصلا بينهما. والشعر عنده يجب أن لا يكون مقصودًا لذاته وإنما لغاية، وغاية الشعر عنده الحث على فعل، أو الكف عن فعل، كما يشترط فيه تحقيق المتعة واللذة والفائدة لدى القارئ والسامع، وهو القائل في رسالته عن الشعر: "المستحسن في الشعر هو المخترع المبتدع (المتخيل)" .
-
المذهب الصوفي :
يعرف المذهب واختلاف الباحثين حول التسمية، بعضهم يقول أن أصل التسمية هو تحريف لكلمة "سوف" باليونانية وتعني الحكمة، وبعضهم يقول: سبب التسمية من لبس صوف التيوس، أظن هذا هو الارجح. وبعضهم ينسب التسمية إلى الصفاء. وقيل: إن الاسم معروف قبل الإسلام، وكان ينسب إلى أهل الصلاح والعلم...
يناقش الكاتب شعر الصوفيين وأدبهم، مبيّنا أن الحب عندهم على أنواع: الهوى، العشق، الود، الحب الإلهي، الحب الروحاني، الحب الطبيعي... ويعرض أهم المصطلحات الرمزية عندهم وأكثرها شيوعا: (المقام، الحال، الوجد، العشق، الحبيب، السُّكْر، الصحو، الذوق، الري، القرب، البعد، الفراق، المحو والاثبات، التستر والتجلي، التجلي للخواص، القربة، الوصال، التجريد، الرياضة، الفقر، الروح المقدسي، الروح السلطاني، حجلة الأُنس، القدرة، التجريد..."
ويستشهد الشاعر بأقوال الجيلاني، ابن عربي، والحلاج، وغيرهم... وهو يركز على الجيلاني والحلاج خاصة وهو القائل:
مزجت روحك في روحي كما كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فاذا مسك شيء مسني وإذا أنت أنا في كل حال (الحلاج)
وإن كنا نحبذ أن يستطرد عن شعر الحلاج وما أصابه من انتقام سياسي، لكن الكاتب آثر السلامة في هذا الموضوع فاقتصر بحثه عن الصوفية في عرض مذاهبهم الأدبية وركز على أشعارهم، ليخلص إلى بيان أن: "الصوفية تفكير وتدبير، نمط سلوك ومنهاج حياة... وهذه التكاملية واجبة في حياة الصوفي، ترافقه من الوسيلة إلى المشاهدة ليكون من أهل السلوك والجاذبية" ص 141 .
-
مذهب الرمزية:
الرمزية في أدب ابن المقفع: في كتابه "كليلة ودمنة" الذي جمع بين مألوف المثل والاسطورة عند العرب، المشبع بالتشبيه والاستعارة الشفافة والأنسة، والتمثيل الحسي والوجداني.. ليعبر عن نقده العميق، واستيائه الشديد من جهل الحكام وعسف ممارساتهم (ص148). وقد جاء كتاب كليلة ودمنة، بعد كتابيين غلب عليهما طابع الترجمة أو التعريب خاصة عن الفارسية لغة قومه:
-
الأدب الصغير: يتحدث عن أدب السلطان، أدب الصديق والمصادقة...
-
الأدب الكبير: يدور حول سياسة الاجتماع، وتهذيب النفس وترويضها على الأعمال الصالحة ومعرفة الخالق .
يخلص الكاتب إلى نتيجة: أن الأدب الرمزي والرمز في الأدب بلغ ذروته في العصر العباسي، ليبدأ رحلته الطويلة لاحتلال مكانة خاصة ومميزة في الأدب العربي والعالمي فيما بعد بأشكال وأساليب أكثر نضجًا وتطورًا .
الباحث صالح أحمد يخلص إلى نتيجة هامة حول كتاب "كليلة ودمنة" مبيّنا أنه: "أراد من خلالها تتويج حملة الموالي (الشعوبية) وهو من زعمائها – في نقل التراث الفارسي إلى العربية بأرق وأسهل وأعذب أسلوب؛ لتستولي على عقول العامة، وتستميلهم إلى التراث الفارسي، وتصبغ المجتمع بالثقافة الفارسية، إلى جانب إرادته في لفت الأنظار إلى فساد القصور والحكام، وما يدور حولها، وخلق روح ناقدة في المجتمع"(ص151)، وإن كنت أختلف مع الكاتب في استنتاجاته، فمن الطبيعي أن يتأثر ابن المقفع بالثقافة الفارسية والهندية، لم يتطرق المؤلف الى نهاية ابن المقفع المأساوية ،الذي اتهم بالزندقة في اعتقادي كانت جاهزة لكل معارض سياسي ، تماما مثل محاكم التفتيش بالأندلس، لق المؤرخ الذهبي في كِتابه سير أعلام النبلاء على هذه الحادثة قائِلاً:
«كانَ ابنُ المُقفَّعِ معَ سعَةِ فَضْلِه، وَفرطِ ذكائِهِ، فِيْهِ طَيشٌ، فَكانَ يقُوْلُ عَنْ سُفْيَانَ المُهلَّبيِّ: ابْنُ المُغْتَلِمَةِ مِما تَسَبّب بقتلِه.» قتل ابن المقفّع وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عند موته. إلا انه خلّف لنا من الآثار الكثيرة ما يشهد على سعة عقله وعبقريته، وانه صاحب المدرسة الرائدة في النثر. المقفّع اظهر عيوب النُّظُم الإدارية في عصره وفضّل النظم الإدارية الفارسية، فالحقيقة إن العرب كانوا بعيدين عن النظم الإدارية، بسبب حداثة الدولة الاسلامية وانتشار الاسلام السريع .
وإن كنت أتوقع من الباحث أن يتعمق أكثر في كتاب كليلة ودمنة، أصل الكتاب، وأثره وأهميته، وسبب انتشاره، ويشرح عن أبوابه، لكن الباحث عالج الأمر باقتضاب شديد، وتركز في حدود المذهبية فقط.
يختم الباحث كتابه بالأدب الأندلسي، يعرفه، ويعرفنا على المذاهب الأدبية لديهم منها: التقليد والتبعية: أي الكلاسيكي المتتبع لمنهج القديم، والتبعية الفكرية، المذاهب الفلسفية، الموشح "مذهب الفن للفن".
خلاصة:
الباحث والأديب صالح أحمد كناعنة، قدم لنا الأدب العربي القديم، في حلتة الجميلة، من خلال قراءة جديدة مغايرة، لا يناقش من خلالها تاريخ الشاعر والأديب الشخصي، بل يحاول الولوج إلى روح الشعر ومعاقله وعرين الابداع، يستعرض أجمل الأشعار وأعذبها، يفسرها بلغة عصرية... وقد حاول إنصاف الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، الشعر الأموي ـ والعباسي، والأندلسي، ناقش فكر الأعلام والشعراء والمفكرين مثل: ابي العلاء المعري، الجاحظ، ابن سينا، ابن المقفع، الحلاج، وغيرهم... هذا البحث الموسوعي، يزخر بالفكر والشعر والنظريات... معتمدًا مئات المراجع، ليخلص إلى آراء واستنتاجات الباحث الذي يقدم لنا عصارة الفكر على طبق من ذهب .
نبارك للصديق والأديب الفذ صالح أحمد كناعنة عمله الجديد الجاد، الذي يعتبر مرجعًا هامًا لكل باحث في الأدب العربي القديم، ومتذوق للشعر العربي الأصيل، ويضيف الكثير للمكتبة العربية وللأمانة الأدبية .
[email protected]