لا يمكن تفسير محدودية المشاركة في المسيرات والمواجهات التي شهدتها الضفة المحتلة بضخامة الأعداد التي شهدها قطاع غزة، والإحياء التقليدي الذي شهدته أراضي 48 في المهرجان الحاشد ببلدة سخنين، وعدم تنظيم فعاليات إحياء للذكرى في التجمعات الفلسطينية بالخارج التي أهملت تمامًا من المنظمة بعد اتفاق أوسلو، إلا كنتيجة مباشرة لاستمرار الانقسام وتعمقه، وما رافق ذلك من شيطنة متبادلة، وزيادة حدة الاستقطاب التي ساهمت في انطباق مثل "حارة كل من إيده إله"، أي كل واحد يقلع شوكه بيده، وهذا بحد ذاته نتيجة طبيعية لغياب المشروع الوطني المشترك بعد أن تم تغييره مرات عدة من التحرير والعودة، إلى سلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره، إلى دولة فلسطينية وتقرير المصير والعودة، إلى دولة مع تبادل للأراضي وحل متفق عليه لقضية اللاجئين، وعدم إعادة الاعتبار له بعد فشل اتفاق أوسلو فشلًا ذريعًا.
إضافة إلى ما سبق، هناك غياب لتأثير المؤسسة الوطنية الجامعة بعد تقزيم منظمة التحرير إثر توقيع اتفاق أوسلو، إذ أصبحت السلطة الناشئة مثل الإبنة التي أكلت أمها. وعندما عقد المجلس الوطني في العام الماضي بعد غياب طويل،عُقِد بصورة انفرادية وبمن حضر، بحيث لم يجسّد الوحدة المطلوبة والضرورية لمواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، وتوظيف الفرص المتاحة.
ومن الأسباب التي أدت إلى حالة الجزر الشعبية التي ظهرت في السنوات الأخيرة، غياب الإستراتيجية السياسية والنضالية المشتركة، والقيادة الواحدة، التي تسعى لتنفيذها، فحتى الوحدة الميدانية لم تكن حاليًا بالمستوى المطلوب لم تتوفر مثلما كان الحال في الانتفاضة الأولى، إذ لم تكن هناك وحدة قيادية بل كانت وحدة ميدانية، حيث تَشَارَكَ الجميع في مقاومة الاحتلال.
ونتيجة لكل ذلك، تغيّرت الأولويات والمصالح، إذ طغت الأولوية ومصلحة كل تجمع أو مجموعة أو منطقة أو عائلة أو عشيرة أو فرد على الأولوية والمصلحة الوطنية.
وفي هذا السياق، نحاول أن نفسر ما يجري في قطاع غزة الذي يعيش تحت حصار خانق وأكبر سجن في التاريخ، حيث يلعب هذا الحصار والكفاح لرفعه دور الرافعة الكبرى لانطلاق مسيرات العودة التي استمرت طوال عام كامل وقدمت مثالًا يستحق الدراسة والتعميم.
إن مسيرات العودة رغم ما يترتب عليها من أثمان، هي البديل الممكن والأكثر جدوى والأقل كلفة. فالبديل عنها يمكن أن يكون المواجهة العسكرية التي لا تريدها مختلف الأطراف، كل لأسبابه، أو الاستسلام الكامل لشروط العدو المتمثّلة بالموافقة على شروط اللجنة الرباعية المعروفة، التي تتضمن الاعتراف بإسرائيل، وسحب سلاح المقاومة، ووقفها، وتطبيق التزامات اتفاق أوسلو، أو الموافقة على الاستسلام لشروط الخصم االداخلي، من خلال التخلي عن السلطة وتمكين حكومة الرئيس من حكم القطاع.
هناك بديل أفضل من كل ما سبق، ولكن لم يجرؤ طرفا الانقسام على اتباعه، وهو يتطلب دفع ثمن إنجاز الوحدة التي كانت ولا تزال ولا بد أن تقوم رغم كل العوائق، من خلال بلورة رؤية شاملة تنبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية مشتركة وقيادة واحدة، على أسس وطنية وشراكة حقيقية، وديمقراطية توافقية تناسب طبيعة المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني.
هناك عامل لا يمكن إسقاطه من الحساب، وهو عدم إيمان السلطة والقيادة بأهمية المقاومة الشعبية رغم حديثها الدائم عن تبنيها، ويأخذ هذا العامل أهمية مضاعفة في ظل الهوة الواسعة بين القيادة والقوى والشعب الناجمة عن الإخفاقات السياسية والنموذج السيئ للحكم الذي جسدته السلطة.
الدليل على الهوة السحيقة ما عبر عن نفسه من خلال أن القوى الوطنية والإسلامية في محافظة رام الله والبيرة دعت إلى مظاهرة إحياء لذكرى يوم الأرض، يوم السبت الماضي، في ميدان "الستي إن" القريب من مستعمرة "بيت إيل"، ورغم وجود قيادات من مختلف فصائل منظمة التحرير ومن خارجها من حركتي حماس والجهاد، وعضو لجنة تنفيذية ووزير، لم يبلغ الحشد عشرين شخصًا إلى أن التحق بهم عشرات قليلة من الشبان في اللحظات الأخيرة.
إن هذا الحشد الهزيل الذي تكرر مرارًا وتكرارًا في مناسبات سابقة يستدعي من القوى والنخب أن تقف وقفة للمراجعة والإجابة عن سؤال: لماذا لم تلب الجماهير، بما في ذلك أعضاء وأنصار الفصائل، النداء للاحتشاد إحياء لذكرى يوم بأهمية يوم الأرض؟
لا يمكن أن يكون الجواب كافيًا بالقول إن الجمهور محبط ويائس. ببساطة، لأنه إذا كان كذلك ونقطة، فلماذا شارك ويشارك بقوة في فعاليات نضالية أخرى، كما لاحظنا في القدس في هبة البوابات الإلكترونية، وفي فتح باب الرحمة وغيرهما دفاعًا عن القدس والأقصى، ولماذا شارك الجمهور بكثافة في حراك الضمان الاجتماعي، وحراك "ارفعوا العقوبات" عن قطاع غزة، ومظاهرة 48 ألف، وجنازة باسل الأعرج وغيرها؟
إن عدم إجراء هذه المراجعة، والاستمرار في نفس السياسات والممارسات وأدوات وطرق العمل، خاصة لجهة العلاقة مع الجمهور، يعكس إما العجز عن الحشد الناجم عن تقادم وتكلس القوى، أو عدم الرغبة الحقيقية بالحشد والخشية منه، وكلا الأمرين أو أحدهما يطرح بإلحاح ضرورة التغيير والتجديد والإصلاح الذي طال انتظاره ولم يتحقق، ولا بد أن يتحقق حتى يتغير الحال، وإذا لم يتحقق فالطبيعة تكره الفراغ، وستخلق الأدوات التي ستملأه ونأمل أن يكون ذلك في الاتجاه الصحيح، لأنه يمكن أن يسد الفراغ قوى وأفكار تدفع القضية الفلسطينية للخلف، أو كما نأمل ونعمل تدفعها للأمام.
[email protected]