مرَّ قبل أيام عيد الأم وسبقه يوم المرأة العالمي، وامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي، بالتهاني والأماني والتبريكات والمعايدات، الكل يتبارى ويتسابق في تقديم أحلى العبارات، وأغدقت المشاعر واندلقت المجاملات، أما الورد فحدث ولا حرج من مختلف الأشكال والألوان ظهر على الشاشات، انقلبت حياتنا فلم يعد شيئا طبيعيا وبتنا أسرى التصنع والآلة والشكليات. بينما كنا في السابق من السنوات، نكرم النساء والأمهات، في شهر آذار الربيع باحترام ووقار داخل العائلات.
صحيح أنه في السنين الآفلة، لم تحصل المرأة على حقوقها كاملة، لم تكن تعمل، لم تكمل تعليمها، لم يسمح لها بالخروج من البيت إلا بمرافقة أحد الأخوة أو مع امرأة أخرى، لم يكن يسمح لها بالجلوس مع الرجال ومناقشتهم، بل لم تتمكن من مناقشة والدها أو اخوتها أو زوجها، تعرضت للضرب، للظلم، ولم ينصرها قانون أو يدافع عنها شرطي. آثرت العيش بصمت وفي الظل، لأن هذا ما فرض عليها بحسب العادات والتقاليد والأعراف التي رسمها المجتمع الرجولي. وساد الأمر سنوات طويلة وعقود، ذاك لا يعني أن الأمور سارت على أحسن وجه، دائما يحصل تمرد وتحدث استثناءات وخروج عن القاعدة، لكنها كانت قليلة ومحصورة، ولم يتفش أمرها. بل أني سمعت من أحد كبار السن وله باع طويلة في عقد رايات الصلح العشائرية، أنه وقعت حوادث زنى وعلاقات غير مشروعة، لكن أجدادنا وآباءنا عرفوا كيف يحصرون المشكلة ويعالجونها دون فضائح ونشر الغسيل الوسخ.
لكن دوام الحال من المحال، فالحياة تتقدم في أكثر من مجال، فتحت المدارس أمام الفتيات، وبعدها الجامعات والكليات، وامتلأت المدارس بالمعلمات حتى سيطرت عليها ووصل الكثير منهن الى إدارة المدرسة والى جانب المعلمات ظهرت المديرات. ولم يقتصر الأمر على التعليم والمدارس، بل امتد الى حقول أخرى، وباتت المرأة تعمل في السوق الحرة وشتى الأعمال والوظائف والمهن، من محامية ومهندسة الى ممرضة وطبيبة، وتنافس الرجل في أماكن العمل المختلفة، ولم يعد صعبا على المرأة أن تتساوى بالرجل، حيث قامت وتأسست الجمعيات التي تناصر المرأة وتدعم مسيرتها نحو التحرر والاستقلالية، ووصل الأمر الى حد "الفمينيزم" واختلط الأمر بين النسائية والنسوية، ورأى الرجال أن الأمر يتهدد مكانتهم وسطوتهم الأبدية، خاصة بعدما سنت القوانين وتدخلت الشرطة في العلاقة حتى بين الزوجة وزوجها وداخل فراش الزوجية، ومنع الأخ من الاقتراب من أخته، فاستبد الحنق والغضب على الرجال الذين ظنوا أنهم باتوا صفرا على الشمال، فعاد شعور الغيرة الى قلوبهم، وأفكار القبلية تغزو عقولهم، وعندما طعنوا في رجولتهم استنفرتهم الرجولة الجاهلية، وجدوا أنفسهم فجأة دون حيل أو قوة، لم يعودوا أصحاب صلاحية وسيطرة، ولم تعد كلمتهم تسري على النساء كما كان، والنساء بتن مستقلات اقتصاديا واجتماعيا، وحظين بالعلم والوعي واليقظة بعد عصور من النوم والتجهيل. ولما لم تعد المرأة أو الفتاة بحاجة الى عائلتها والى دعم مادي منها، اختارت طريقة عيشها المستقلة، فلم يعجب ذلك بعض الرجال، ورأوا أن "شرف العائلة" بات في مهب الريح، واستذكروا قول الشاعر بأن الشرف العظيم لا يعالج الا بالدم.
صحيح أن نسبة التعليم ازدادت في مجتمعنا، صحيح أن شبابنا بغالبيتهم يتجهون للتعليم العالي، صحيح أنهم حصلوا على وظائف رفيعة وعاشوا حياة رغيدة، وكل زوج استقل في بيته باستقلالية بعدما انفصل عن عائلته الواسعة، لكن العقلية القبلية بقيت متغلغلة في تفكيرنا الباطني، خاصة وأن بعض الزعامات التقليدية بررت القتل على خلفية ما سمي زورا وبهتانا "شرف العائلة". وازدادت حوادث الاجرام وبدل أن يتم لفلفة الموضوع ووأده في المهد، بات شرف العائلة على كل شفة ولسان وعلى كل فيس وواتس وانستغرام، فلم يعد هناك من سر إلا ويذاع، وعاد قتل المرأة ليهدد مجتمعنا وينسف كل تطور شهده، بين حانا التفكير البائد ومانا الانفلات السائد.
[email protected]