بعدما أصبح شعبنا على نكبة جعلت منه أشلاء منه في عدة بلاد، وقسم تحول إلى مواطنين في دولة لم يفهم كنهها وعزاؤه أنه بقي في أرض الأجداد، اعتاد هذا القسم الباقي أن يدلي بدلوه في الانتخابات، واعتبر أن دخول نواب عرب إلى الكنيست فيه الكثير من المنجزات. ومنذ البداية ظهرت قوائم تابعة للسلطة تقتنص من العرب الأصوات، يقابلها الشيوعيون وأصدقاؤهم بحدة وصلابة وثبات. وانقسم شعبنا سياسيا بين وطني و"عميل"، هذا ينادي بالعروبة وأخوة الشعوب وذاك يمدح ويثني على نظام إسرائيل. وكلما ظهر نائب شجاع يقف إلى جانب المظلوم، ويدافع عن العدل والحق بصوت جهوري قويم، ويتصدى للظلم ويقارع الظالم بكلام سليم، رأيت الجمهور يدعمه ويجعله عليهم زعيم.
وبعد انتهاء تلك المرحلة واختفاء القوائم المرتبطة، وانتقالنا لمرحلة التعدد والمزاودة، ظهرت في الميدان قوى جديدة واتخذ الصراع الداخلي أشكالا عديدة. هناك من يخوّن وهناك من يمنح الشهادات، وجهة تدفع وجهة تقبض والحساب بالدولارات. وظهر الشرخ بين الشيوعية والقومية، وعدنا لأيام الحروب العقائدية، ولأن الدست لا يستقر إلا على ثلاثة وفق أمثالنا الشعبية، لم يكتمل التصدع السياسي إلا بظهور الإسلامية. فاختفت وجوه وتبدلت قيادات، وخلت من خلصائها الهيئات والتنظيمات، وتراجعت السياسة وازدهرت الاستعراضات.
وبعدما شعر المواطنون أن بإمكانهم ممارسة الديمقراطية بدون قيود، وعاشوا في بحبوحة اقتصادية الى حد التخمة بدون حدود، وتمادوا في "اسرائيليتهم" الى حد التعالي على اخوتهم وراء الحدود، لم يعد يثنيهم عن سلوكهم الأعوج قانون ونسوا العادات والتقاليد. فاتخذت المناكفات السياسية أشكالا جديدة، وبرز العامل الشخصي مكان التنظيم وأخفى العقيدة، وكثر الهرج والمرج وباتت السكاريم لنا قصيدة.
ورويدا رويدا تراجع اليسار وتمدد اليمين، في التحريض على أوسلو وقتل رابين، وعربنا يزداد بينهم الخلاف والتباعد، ولولا رفع نسبة الحسم لطار العقل وغاب اليقين. وبفضل ذلك حققوا خطوة لم يعرفها العرب إلا في الأحلام، وجاءت المشتركة لتجمع الصفوف من بعد خلاف وخصام، وتفاءل الشعب بعهد جديد يخلو من الطعن في الظهر والانتقام، لكن الخيبة لم تتأخر بعدما عادت أحزابنا إلى تاريخنا الحافل بالانقسام. فهذا يريد رئاسة وذاك يبحث عن زعامة وآخر يدعي الريادة، ومهرج يهدد ويتوعد بالطلاق ان لم تكن له السيادة. وقفز كل حالم ويائس ومنسي ومهمل وطامع إلى قلب الميدان، معلنا أنه بدونه لن تكون لعبة ولن يتردد في قلب الميزان. وكما نراهم يسيرون في العرض في مطلع المظاهرات، فيضيق بهم الشارع وتكثر المزاحمة أمام الكاميرات، هكذا في بورصة الكنيست تضخمت الأسماء ولم تعد تكفينا حروف أو شارات. وكأنه لا يكفينا ما فينا من مهازل وتشرذمات، حتى أطلت علينا حملة المقاطعات، طرف يقاطع عقائديا وآخر مرحليا، و"حزيب" زعلان و"قويئمة" حردانة، حركة مستجدة وحركة مستبدة في دوامة انتخابية. والجمهور ما عاد يستوعب أو يفهم، ما سر كل تلك التحركات الأشبه بالبهلوانية، فظنّ أننا في سيرك أو عروض تهريجية. وبدل أن نوجه جهودنا نحو هدف مشترك، باتت توجه السهام لأهداف ذاتية، وأخذ يصيح كل طرف صرخة شمشوم، ويتمنى الخراب لعدوه ولأخيه في القومية. وفي ظل حروبنا الداخلية بين حانا الانتخابات ومانا المقاطعات، يتراجع حالنا وربما يمسي أسوأ من عصر الخمسينات.
[email protected]