رحل عنا "الرفيق والأخ والصديق الجليل جدا" (هذا الذي كتبه راحلنا الغالي لرفيقنا ابوالوليد نايف سليم مؤخرا كإهداء منه له على احد كتبه) , شاعر فلسطين والعروبة والاسلام المناضل : سميح القاسم (ابو محمد وابو وطن) تاركا في نفوسنا الحسرة, وفي العقول حيرة, وفي الوجدان اجلالا, وفي الارادة صلابة واقداما, وفي المجتمع فراغا من الصعب أن يملأه أحد . كُتِبَ عنه وفي حياته الكثير, وكُتِبَ وقيل وسيكتب بعد رحيله المؤلم الأكثر, ومن الصعب بمكان أن تجد من جديد لتكتبه أو تقوله , خاصة عندما تكون انسانا عاديا جدا .. وفي نفس الوقت وكوني من العاديين جدا, ترى أنه من الأصعب علينا, نحن هذه الشريحة ( والتي تحيز لها سميح كل الوقت), أن لا نكتب عن هذا العملاق الروحي والفكري والشعري والأدبي الخارق.. ببساطه لأنه يحمل هذه الميزات التي ترفع مكانته عاليا عاليا, ورغم كونه في العلالي وبجدارة كان الأقرب لنا من كونه وقناعاته الراسخة رسوخ جبل حيدر- مكان اقامته في حياته وحاضن ثراه الطيب في مماته, لذلك هو كتب ونحن سنكتب, وهو قاوم ونحن ايضا سنقاوم, وتعلمنا أن نقاوم وسندعو كل الناس بأن تقاوم , ولكن ! ولكي لا نقع في التكرار الممل, لأنه لا يليق بهذا الانسان ولا بهذا المكان, ولإعطاء راحلنا الغالي : ابومحمد وطن حقه, علينا وواجبنا اتجاهه, سأتناول بعض الملاحظات والاحداث , ربما فيها اضاءة خاصة وضرورية, من الصعب على آخرين أن يذكروها أو يعرفوها, وربما عند البعض المغرض أو الغرقان بالذاتيات وللأسف أن يعترفوا بها , لذلك الحاجة والضرورة أن نأتي على ذكرها.
طائر الرعد الفلسطيني هذا هو من العمالقة القلائل الذين كرسوا جل حياتهم ونشاطهم الغني والمتنوع لخدمة شعبه ومصالحه الحقيقية, ولأمميته الشاملة بالمعنى الانساني الواسع والشامل لها وبأقصى معانيها السامية, مانحا كل ما عنده من طاقات فنية غنية ووفيرة ونادرة الوجود ,الشعرية والنثرية والخطابية, لوطنه وعروبته وانتمائه الديني الاسلامي ولإنسانيته المُشرِّفة والمشرقة, وفي هذا السياق يحق للبعض أن يوافق مع راحلنا الجليل, أو يلاحظ له على تفصيل هنا أو هناك وهذا طبيعي, ولكن وبالمطلق فان سميحنا يبقى نهرا نقيا متدفقا من هذا الخير الوفير والصحي ورمزا" للصمود والارادة والمقاومة , تماما كما يقاوم زيتون وخروب وسنديان وريحان جبل حيدر حاضن ثرى سميح عوامل الطبيعة وغيرها , وفوق هذا يبقى سميح سيد الشعر والكلمة والنثر , نعم هو السيد.
هذا الأمر, أي تكريس كل ما عنده وله لشعبه الفلسطيني, شعب الجبارين, ولإنسانيته هو الأمر الطبيعي في حياته... أما أن يكون هو الأكثر وفرة وغزارة في مماته الأليم ايضا , هنا تتكرر خصوصية هذا الخاص, لأن راحلنا الشامي الزرقاوي القرمطي هذا وفي أصعب ظروفه الصحية, وبعد رحيله .. وخاصة أثناء تشييع جثمانه الطاهر, تحول الى محيط ومحط لا بل العنوان لوحدة شعبنا الفلسطيني وامتنا العربية والاسلامية بمعناها الوطني والتقدمي والنضالي, وكأن تأبينه جاء ليطلق زغرودة وحدوية تتجاوب مع وحدة مقاومي غزة العزة في الحرب الاجرامية الأخيرة التي شنتها اسرائيل على قطاعهم المحاصر, والتي فرضت على الجميع احترام ومراعاة حقوق شعبنا الوطنية وهي فقط الكفيلة بتحقيق طموحاته. وهنا المكان لنذكر المثال الذي أشرنا له والذي يعكس المدى الخارق للرؤيا المتبصرة لدى سميح , حيث هو الذي بادر وأصر, وبشكل لم ندرك نحن رفاقه واخوانه وفي حينه, محيط وحجم ما عناه والى مدى ما رمت اليه نظرته الثاقبة , حين طلب بأن يصدر كتابه الداعم لهذه الوحدة النضالية : " لا توقظوا الفتنة" وباسم لجنة المبادرة العربية الدرزية بالذات, لأنه وببساطة لم تكن لديه أو عنده مشكلة تمويل اصداره أو توزيعه, ولأني كنت العنوان من قبله وقبل رفاقنا في المبادرة لإخراج هذا المشروع الوحدوي الوطني الهام جدا الى الوجود, ولتوصيل هذه الرسالة من هذا الطيب الذي قاده شعره وشعوره وعقله العبقري, لاستنباط هذا الخط والموقف الرافض للتكفير والتكفيرين, خادمي مشاريع الفتنة الغربيين والصهاينة وأدواتهم الفتاكة, عندما كانت في بدايات صعودها, واليوم أصبحت الشغل الشاغل للعالم قاطبة... طبعا قمنا بالواجب وتم التجاوب مع رغبة رفيقنا وأحد مؤسسي لجنتنا وأصدرنا الكتاب, وعملنا وبدعم الناس الطيبين ما استطعنا اليه سبيلا لإيصاله الى أكثر الناس.. بقي أن نعترف وعلى الملأ وكما أعلمنا البعض بذلك , أننا خططنا لتوزيع 30 الف نسخة على الأقل من هذا النداء القاسمي ضد الفتنة المبنية, والتي هي فعلا اشد من الموت, وخاصة لكل المدارس وغيرها, إلا أن ظروفنا القاهرة والحصار القاسي المضروب علينا, ان كان من ما يدعي أنه بديل لنا .. وبالطبع مع استمرار وصعود حصار قوى للعدو وغيرها من الاسباب , لم يفسحوا المجال لتحقيق هذا الحلم الوطني بامتياز وسد هذه الحاجة التي أصبحت هي الكفيلة بعدم وقوع المآسي, ولكن وخاصة الآن وبعد رحيل سميح يبقى هذا المشروع دينا" : علينا وعلى كل من عنده ذرة وطنية, واستحقاق, لسميح كل الحق بمطالبتنا به نحن ابناء شعبه ومحبيه, لأن مشاريع الفتنة لا ولن تتوقف عند الداعشيين ونسخهم العربية أو الاسلامية أو الاجنبية , ولم تبدأ بهم ولا تقتصر على الناحية الدينية فقط, ورغم أن استغلال الدين لبنائها يشكل الحالة التي تأتي وللأسف بالحالات الأكثر فتكا ودمارا, بل هي فتنة مبنية وموجودة ويُعْمل بها أيضا في الاعلام والاقتصاد والعسكر والمجتمع والدين والفن بكل أنواعه وأساليبه, ويدفع فيها المليارات فوق المليارات , ان كانت امريكية أو صهيونية أو خليجية وغيرها, وهي نقطة الضعف التي يأتي منها كل المغرضين والقاصدين للسيطرة على العالمين العربي والاسلامي ومقدراتهما, ونقيضها هو هذا الموقف الوحدوي القاسمي وكل المقاومين لهم, وهو الدواء لهذا الداء الخبيث, وكما كره سميح الموت وسببه ولكنه لم يخفهما, كره أيضا الفتنة واسبابها ولكنه لم يخفهما, ونحن رفاقه واخوانه في لجنة المبادرة العربية الدرزية , وليس من أي منطلق ضيق أو فئوي, وليس لننتقص من مكانة أي كان بالعكس تماما, نعتز باختيار سميح لنا لنكون شركاء ومكملين لهذا المشوار والذي يتطلب كل الجهود المشتركة للقيام به وبالضبط كما اراد سميح.
صرخة سميح القاسم المدوية الى اليوم :
من يدي لن يقفز الموت لصدر عربي يحرس الفجر الذي طاف على الشرق الابي
جاءت كدعوة شعرية قاسمية عابقة بالمقاومة للظلم وصانعيه وخاصة لرفض قانون التجنيد الاجباري المفروض على شبابنا العرب الدروز, كون تكريسه من قبل السلطات الاسرائيلية بهذا الشكل الانتقائي والمبني هو جزء من المشروع الفتنوي المبني والذي كرهه سميح ورفاقه وقاوموه بكل الوسائل, وأبدع سميح في هذا العمل الرافض والذي من أهم محطات بلورته وارتقائه هو بيان "الشبان الدروز الأحرار" في بداية الستينات من القرن الماضي , ليكون أول منشور عام ضد التجنيد الاجباري, وأما الخاص في هذا السياق أن الاسم " الشبان الدروز الاحرار" هو اختيار سميح , وجاء على وزن " الضباط المصريين الاحرار" وكما سماهم خالد الذكر القائد جمال عبد الناصر عندما ثاروا وخلعوا الملك فاروق . وكانت المحطة التالية لعملية الرفض المباركة هذه : تشكيل لجنة المبادرة العربية الدرزية في الرامة بلد سميح, ومع رفاقنا في الحزب الشيوعي : محمد نفاع ونايف سليم وسميح القاسم, وطيب الذكر الشيخ فرهود فرهود أول رئيس للجنة وسكرتيرها الأول عاصم الخطيب وآخرين من الرفاق والوطنيين وذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي, وللحقيقة والتاريخ كان سميح منا وفينا في كل محطة مرت على هذه اللجنة حتى يومه الأخير, وعندما زرناه وفد من اللجنة في مستشفى صفد, نايف سليم ونمر نمر وأمين خيرالدين ومحمد عامر وكاتب هذه السطور, لنطمئن على صحته وكنا نعرف أن مقابلته غير ممكنة حفظا على صحته, تزامن موعد الزيارة مع زيارة الوزير يحيى يخلف, وعندما علم سميح بوجودنا أصر على مقابلتنا ولو للحظه, وهذا الذي كان, ولا ولن ننسى قبضته بكلتا يديه لكل واحد منا وقوله : احبكم, وقولنا له كم نحن نحبه... , إلا أن المحطة الأهم في اسهام هذا العظيم في هذا العمل الوحدوي الوطني هو مراسيم تشييع جثمانه الطاهر والذي تحول الى مظاهرة من الوحدة الوطنية النضالية المقاومة, وتحولت الصلاة على والتي رتلها بامتياز الشيخ الامام نزيه كيوف والتي تم بثها مباشرة على الهواء, هي بمثابة صرخة قاسمية وحدوية دينية , وكرد عفوي وطبيعي وحقيقي على مشاريع الفتن الدينية والمذهبية, والتي لا مجال آخر لإشهارها لولا كون الجنازة لسميح , وشكرنا العميق لكل وسائل الاعلام التي غطت هذا الحدث الجلل وخاصة للتلفزيون الفلسطيني وعلى رأسهم الأخ احمد زكي العريدي, ومن التعقيبات على الصلاة من بعض الأخوة السنيين كانت " صلاتكم اسلامية 100% لا بل مميزة" , وبهذا يكون سميح وبمماته وضع حجر الغلق على موضوع الهوية والانتماء لابناء مذهب التوحيد, قوميا ودينيا, والأهم خلافا ومناقضا كليا لمشاريع الفتنة ولأصحابها وخدامهم.
عندنا الكثير مما يستحق ذكره وتوثيقه لإبراز دور واسهام راحلنا الشريف , إلا ان المكان لهذا المطلب الضروري ليس هنا , آملين من اسرته الكريمة والمضحية التضحيات الجسام أن تشركنا في عملية التحضير لأربعين سميح, ولتوثيق ما تبقى مما يجب توثيقه, لأننا وكما قالها عضو السكرتارية في لجنة المبادرة الشيخ الكاتب نمر نمر وعند وصولنا بيت المرحوم الخالد مباشرة ليلة وفاته لأسرته وللحضور: " نرجو نحن رفاقه في لجنة المبادرة أن تعتبرونا جنودا" لأي طلب أو لأي عمل مطلوب, لتوفير كل ما يجب عمله لإعطاء فقيدنا ما يستحقه الآن ولاحقا", ولا يفوتنا تقديم الشكر الجزيل لطاقم الأطباء الذين رافقوا سميحا" وعالجوه بتفان منقطع النظير , منذ لحظة اكتشاف اصابته بالمرض الخبيث, وعلى رأسهم البروفسور جمال زيدان, لأن هذا المرض, وكما فهمت من أطباء, من النادر بقاء المصاب فيه قيد الحياة اكثر من 8 اشهر, ومع ان الأعمار مُقَدّرة, إلا أن فترة حياة راحلنا امتدت 3 سنوات , مما اتاح المجال لفقيدنا الغالي بإنجاز, أكثر ومن اهم اصداراته, في هذه الفترة العصيبة, ليصل مجمل ما أصدره الى 70 ديوان ومسرحية وكتاب من الشعر الصافي والنثر المميز والمباركة والتي قيمتها لا تُثمن.
بقي أن نترحم على روح فقيدنا الغالي الشهم, أبو وطن وابو محمد السميح القاسمي والحسيني, ونعزي اسرته وأنفسنا وكل من يحبه, ونلتزم بعده بأننا سنبقى مرفوعي القامة ومنتصبي الهامة وسنمشي .. فقط كمقاومين لكل ظلم وظالم .. وابدا على هذا الطريق.
وداعا يا رفيقنا وأخانا وصديقنا.. وسنحمل الراية, راية المقاومة راية سميح القاسم.
[email protected]