بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل العبرية، بقيت بقية باقية من شعبنا تعيش بدون هوية، في حكم عسكري وقيود وأحكام جائرة الى حد العبودية. كانت حياة قهر وظلم وتشريد وتضييقات عنصرية، وقام بين الجماهير حزب يعكس تطلعاتهم بلبوس أممية، فوجد تأييدا بين الناس البسطاء ومحبي عبد الناصر ومناصري الشيوعية. ولم يعرف شعبنا يومها تفريق ين مسلم أو مسيحي أو درزي، ولم تكن هناك تقسيمات مصطنعة فالكل تحدث بلسان عربي. وفشلت مخططات السلطة رغم منحنا الهوية الزرقاء، ولم نتحول الى حطابين وسقاة ماء. وعرف شعبنا كيف يصون وحدته، وكيف يواصل بكرامة عيشه.
عملوا على سلخ الطائفة المعروفية، عن أهلها وقوميتها بفرض الجندية، وزعموا أنها مختلفة عن العربية، فأوجدوا تراثا نسخوه وجعلوه درزيا. وقالوا للبدو مالكم وللعروبة فهي بدعة لا تليق بكم، فأنتم أقرب الينا ونحن نحميكم في ترحالكم واقامتكم، والجيش والشرطة مفتوحة تنتظر خدماتكم. وفي السياسة وأحزاب الانتخابات، أوجدوا مقاعد وتمثيلا للأقليات، وما عليكم سوى الابتعاد عن المتطرفين وأن تحجبوا عنهم الأصوات. وفي التوظيف وتوزيع الحصص في التعليم، اختلقوا الدوائر وعينوا وصيا في شؤوننا عليم.
ولما شببنا على الطوق وأخذنا قسطا من الثقافة، وتهيأ لنا أنه من حقنا التفكير وتولي أمرنا في التدبير سعينا مهرولين نحو التغيير. فثرنا على كل ما هو قديم، وهدمنا ما أعاق تطورنا وما كان منه سليم. فرفعنا لواء التعددية واعتمدنا الديمقراطية، وفي دماغ كل منا رواسب قبلية. ازداد تعليمنا لكن تراجع تفكيرنا. حملنا المزيد من الشهادات، وظل انتماؤنا للعائلات. درسنا واجتهدنا وحصلنا على أعلى المناصب، وبقي تفكيرنا وقفا عند الحسب والنسب والأقارب. حفظنا الشعارات المنمقة والتقدمية، لكن عقلنا بقي أسير الأفكار المسبقة والرجعية. أعطينا أنفسنا الكثير الكثير والمزيد، وسرنا دون تخطيط لمستقبلنا أو تحديد. وأخذنا نصارع بعضنا في شراسة، ونسينا صراعنا الأول مع الرئاسة.
لم نعد أقلية مستضعفة خائفة مقهورة، أصبحنا أقلية متأسرلة وقاحتها مشهورة. لم نعد مائة الف وخمسين، أضحينا اثنين من الملايين. لم نعد نقنع أو نرضى بالموجود، وطلبنا وسعينا ورأينا أن حقنا فوق المنشود. وبعدما كانت الوطنية تضحية وانتماء، باتت على الرصيف مسخرة ووباء. وبدل أن تكون القيادة عطاء وخدمة وتفاني، صارت زعامة وصورا في شكل ثاني. فتحول يوم الأرض من كفاح ونضال، الى يوم للنزهة والفسحة والدلال. وبدل أن نكون كتلة موحدة قوية، اخترنا التشرذم باسم الحرية، وبدل أن نصون شرف القضية، تنازلنا عنها باسم الأنانية. كل ذلك تم ونحن صاغرون، والى مخططات السلطة منقادون.
وعلى صعيد الحياة الحزبية، وبعدما طلقنا الحزب الواحد واتجهنا إلى التعددية، أطلت طحالب من جحور كانت منسية، وبحركات فيها الكثير من التهريج والزئبقية. تدعي وتقول أنّ على يدها التقدم والخلاص وحل الأزمات المحلية، فقط اتركونا من السياسة والاحتلال والقضية الفلسطينية، دعونا نهتم بأمورنا وقضايانا وكأنها في حلّ من الأزمة الشمولية، وانتشرت أفكار غريبة وبعيدة عن أصولنا وشهامتنا العربية، فهناك من اهتم بتغذية عقولنا وتحويل حياتنا الى تفاهات رأسمالية. وبتنا في حيرة من أمرنا بين وحدة مشتركة، أو انفلات وتشرذم باسم التعدد بالأفكار الحزبية، أو نأي بالنفس ومقاطعة للانتخابات البرلمانية. وحالنا لم يعد يسر صديقا أو يشبع عدوا، طالما أن حانا ومانا تلعبان في مصيرنا ونحن في جاهلية.
[email protected]