يُعتبر اختيار عُنوان الرواية مهمّةٌ صعبة، وقيل في حينه: "الكتابُ يٌعرفُ من عُنوانِه" فكان الكاتبُ يختارُ عنوانًا يلخّص مضمون الكتاب ليُحفّز القارئ على تناولِه، ومع الزمن أصبح العنوان عتَبةً نصّية وعملًا روائيًا موازيًا لمتن الرواية ومرشدًا لنصّها، ولا يُقصد بالعنوان المركزيّ فقط، بل بالعنوان الفرعيّ الذي يشير إلى موضوع الكتاب أو يُحدّد خصوصيّته أو يوحي بمضامينه ويشكّل عنصرًا موازيًا مغريًا، يُزاحم النصّ في أهميّته، ومثال ذلك مقدّمة ابن خلدون، إذ نجد أسفل العنوان الرئيسيّ (مقدّمة) عنوانًا فرعيًّا: (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، وها هي الدكتورة كلارا سروجي- شجراوي تُعَنون روايتها "حكايات الليدي ندى" بعنوان فرعيّ "تمّت سرقة الرّسائل بعَوْن "هاكِر" ذكيّ" (133 صفحة، تصميم الغلاف للفنّان بسّام حمدان، إصدار الآن ناشرون وموزعون بإدارة جعفر العقيلي)، صدر لها "طواف - خربشات قصصيّة بحجم راحةِ اليد" و"ميلانخوليا الوجود - رجفات ولوحات قصصيّة قصيرة".
تبدأ الرواية في مطلعها: "لكلّ مَن ساهم في إبداع أجهزة الكمبيوتر وتطوير برامجه لقد جعلتم حياتنا أجمل وأسهل وأكثر ذكاء وباتَ الكشفُ عن سِرّ الهوى المكنون والعَيب المستور أسرع"، بالإضافة لعنوانها الفرعيّ تُدخلنا إلى العالم الجديد ومصطلحاته بانسيابيّة فتحبّبنا ب"الهاكِر"، "فيسبوك"، "ماسنجر"، "صور الإيموجي"، "مُخترِق الحاسوب"، "اليوتيوب"، "الكمبيوتر"، "الآيباد"، "الفيستايم"، "الكيبورد"، "روبوت تمّت برمجته"، "أنقر على لوحة مفاتيح اللاب-توب" وغيرها.
بطلتا الرواية (ندى وإسراء) صديقتان افتراضيّتان، تعارفتا وتآلفتا عبر الفيسبوك وماسنجره، عاصرتا الربيع العربيّ الذي كان نتاجه موت الآمال وولادة الشياطين، عمّ الخراب وانتشر الدمار ونُحر الشبّان كالخراف وسُبيت الفتيات(ص.18)، فهربت ندى إلى عالم متخيّل إفتراضيّ بعيدًا عن الواقع المُعاش، فالعالم الإفتراضيّ لم يعد خياليًّا بل هو واقعنا بأم عينه، وتراسلتا بينهما.
تأخذنا كلارا، المثقّفة، إلى عوالم "هولاكو"، "خِتم الملك سليمان"، "أبو زيد الهلالي"، "جعفر البرمكي"، "الحالة السَّيكوسوماتيّة"، "نظرية داروين"، "الميتافيزيقا والتفكير المجرّد"، و"كنديد فولتير" دون تكلّف وتملّق، وبانسيابيّة سهلة وبسيطة تليق بالنصّ وتُجاريه.
عشت مع جرأة كلارا وسخريتها اللاذعة التي تمتدّ عبر صفحات الرواية، فتسخر من ظاهرة الليلكة التي صارت بين ليلة وضحاها سيّدة الموقف "مُكيلين اللايكات لمَن نُريد ومتجاهلين آخرين لا يمنحونا أيّ "لايك" مهما أنجزنا، والبادي أظلم" (ص. 21)، تتناول عشق العرب للجمال الأجنبيّ "رغم أنّنا نكذب كعادتنا في شعرنا ورواياتنا وأغانينا ونغطّي على أحاسيسنا الحقيقيّة"، وحين تقول بسخرية لاذعة: " سيارة الإسعاف، على ما يبدو، لفّت القرى المجاورة قبل أن تصل". تسخر من سلّم الاهتمامات والأفضليّات "فقدَ المجتمع العربي فطائرها اللذيذة، دون أن ينتبه أحد من الجيران والمتظاهرين لغياب طفليها"، تسخر من تصرّفاتنا الحياتيّة اليوميّة حين تقول: "نحن في أحيائنا العربيّة "القًحّ" لا نترك حوض زهور أقامته البلديّة عن طريق الخطأ أو بعد تخطيط دام سنوات، إلّا ونزيّنه بمنشوراتنا الدعائيّة والسّياسيّة التي تندّد بأي شيء مع "كمشة" أخطاء إملائيّة ونحويّة"، تُطلق على الحيّ "حارة الجنازير"، ابن أبو عاصي تزوّج يهوديّة من أصل روسيّ ليسكن في نتسيرت عيليت ليضمن لنفسه مَدخلًا غير مسدود لسيّارته!!، وحين تصرخ إسراء بحِرقة: "بتُّ أشبه بممسحة ينظِّف فيها الآخر أوساخه ليتطهّر".
تحدّثت كلارا عن ازدواجية المعايير والتخييل الفيسيوكيّ وكأنّ كُتّابنا يعيشون على كوكب آخر. ندى تعيش الماضي الجميل بعيدة عن يومنا الذي "استبيحت العذارى لرجال يملكون المال الوفير، وجُعلت أجسادهن متعة رخيصة يطأها الدواعش"، كذلك الأمر في تصرّفاتنا الحياتيّة هنا وهناك "في الأحياء اليهوديّة فنحن مثال النظام والإنضباط نسير في شوارعها الواسعة النظيفة، وندخل أيّام عطلتنا إلى مجمّعاتها التجاريّة الكبيرة بهدوء ورفعة" (ص. 28) وتتحسّر على مُراءاتنا حين ننظر للجمال الغربيّ بمنظار من عانى طويلًا من انتداب الأجنبيّ واحتلاله، فعشق جماله واعتبره دالًّا على القوّة والمجد والرّفعة.
تناولت كلارا قضايا "نسوية" ومحاولة استغلال المرأة، فالجارة ميساء تهتم بشؤون المنزل في الخارج والداخل، تنقر الكوسا والقرع والباذنجان، تخبز المعجّنات والفطائر بالجبن والسبانخ والسلق للنساء العاملات وغير العاملات المدللّات وزوجها عاطل عن العمل.
بينما ويليام الأجنبيّ، مدرّس في الجامعة، يرى سماح أجمل أنثى في العالم، يدلّلها ويساعدها في شؤون المنزل ويهتم بدراستها كي تحافظ على تفوّقها وسمح لها بتأجيل الإنجاب، ويحتضن ندى ويقبلّها على وجنتيها، ما لم تعتد عليه هنا! وهو من أطلق عليها لقب "الليدي ندى".
تطرّقت كلارا لفزعات العرب الموسميّة فيتظاهرون مندّدين بالعنف ضدّ النساء وتقاعس الشرطة حين تُقتل ميساء، ورجالنا كما "خفافيش الليل لا ترتاح عندنا صباحًا فهي مستعدّة دومًا للإنقضاض على فريستها.. تعيش وتفرح عندما يموت الآخر وتُنتهك الأعراف وتُستباح الدماء" والقيل والقال سيّد الموقف حين تستشري البطالة، وطوشة بسبب أذى لسيّارة أدّت إلى قتل محمود "بالغلط"!. تنتقد أهل الزوج الذين أجبروا ندى التنازل عن البيت لزواج ابنتها من أمريكيّ غريب لتعيش نفيًا قسريًّا، لاجئة في بلادها بعد تهديدها بملاحقة ابنتها، وإخوانها أقاموا عليها العِداء وطردوها!!
تتحسّر على "فقدان" الهويّة حين تقول: "بات أغلب صبايانا وشبّاننا يُدخلون المفردات العبريّة بعفويّة تامّة إلى كلامهم، ولا يفقهون من لغتهم الرّفيعة الأدبيّة إلا ما قلّ وتيسّر، فيتكلّمون بلسان معوج أشبه بنطق ببغاء لا تعقل"!!
تحدّت كلارا التابوهات المتوارثة وتحدّثت عن المسكوت عنه، كما رأينا في قصة "ارتداد" بمجموعتها القصصيّة "طواف" حين حاربت سفاح المحارم:"هناك، في غرفتهما قبّلها في فمها. أبعدته عنها، لكنّه ألقاها على السّرير وانتزع ثيابها. حاولت أن تصرخ، فوضع يده على فمها. حاولت أن تبعد جسده عنها لكنّه كان أقوى منها. بابا، لا تفعل بي ذلك، لكنّه لم يسمع توسّلاتها، ولا رأى الدّموع في عينيها"، وفي الرواية تتناول قضيّة الإعتداء الجنسيّ على ندى ابنة العاشرة و"تلك الليلة قرّرت مصيري ومستقبلي"، كذلك إسراء تعرضّت للإعتداء الجنسيّ من قِبل توفيق صديق العائلة ومن قِبل والدها الذي حاول إغتصابها "أجد أبي يشدّ أختي من شعرها ويدفعها نحو السّرير وهو يصيح بها: "عاهرة مثل أمك"(ص. 72) والإغتصاب لاحَق ندى كلّ حياتها، خاصّة لانعدام التربية الجنسية كما نرى في وصفها لشعور سماح حين جاءتها العادة الشهريّة للمرّة الأولى.
تناولَت وضعنا ومآسي شعبنا بحنكة بعيدة عن الشعاراتيّة والمباشرة، فالأم تعشق الأرض ورضعت حبّها لها فبات طبيعيًا بممارساتها اليوميّة، هنا وهناك، "أمّي تعشق الأرض منذ أن ضاعت أراضينا ولم تعد مُلكًا لنا، كما حدث لكثيرين غيرنا، وعندما دخلت الجرّافات إلى عين ماهل واقتلعت أشجار الزيتون قبل أربع سنوات ركعت أمّي على الأرض، وأخذت تبكي كأمّ على صغارها، وتستصرخ الآباء والأجداد الذين ماتوا وشبعوا موتًا" (ص.32)، وكذلك الأمر حين وصفت زيارة العمّة نورة التي هُجّرت وشُرّدت إثر النكبة عام 1948، بعد شهرين من زفافها حين خرج زوجها نسيم لأرضه يفلحها ولم يعُد... فقدت نسيمها، و"الشجرة" فقدت رجالها... واسمها... الذي صار إيلانيا! ووصفتها بجماليّة أخّاذة: "إنّها إيلانيا الجميلة تحبّ الغنج والدّلال.. تغوي الرّجال والنساء بجمالها.. تستلقي عارية فاردة جسمها الرّشيق على مدى البصر... يأتون إليها ليمتّعوا أنظارهم بجمالها ولتزداد الحسرة في قلوبهم فهي ترفضهم جميعًا ولا تأبه بهم لأنّها صارت مُلكًا لغيرهم" (ص.44) وكأنّي بكلارا تسخر من ناجي العلي وحنظله وأرى الدمعة في عينيه!
جعفر يكفر بكلّ المعتقدات ويواجه ربّه صارخًا: "فقدت إيماني بالله، لأنّ الله يصرف النظر عن الجرائم، بل يمنح المجرمين والمغتصبين والكاذبين والسّارقين حياة أفضل"!
تثير كلارا تساؤلات فلسفيّة ووجوديّة بجرأة نادرة في أدبنا؛ تناولت علاقة عوفرا اليهوديّة من إسرائيل وخليل اللبنانيّ اللذان التقيا في جامعة هارفارد فكان الحبّ أقوى من معارضة الأهل وولِدت مِيرْيَم وباتت قطيعة أبديّة مع الأهل، كاتيا اليهوديّة القادمة من روسيا التي فقدت إبنها بتفجير "مكسيم" الحيفاويّ فصارت نشِطة في مجموعة "النساء بألسواد" تتظاهر كلّ يوم جمعة تحمل علمًا أسودًا كُتِب عليه "كفى للإحتلال ولإراقة الدمّ" ولم يساندها أحد (قِلّة) وعشقت تلميذها في دراسة البيانو عليّ وصار حبيبها بالخفاء، و"كيف شعور اليهودي عندما يُغتال أبوه أو تُطعّن أخته بسكّين أو تموت أمّه في انفجار حافلة؟ أليس طبيعيًّا أن يشعر بالكُره نحو العرب، تمامًا كما يشعر العربيّ المهزوم والمسحوق الذي فَقَد كلّ ما يملك وضاع المعنى من حياته فقرّر تحقيق مقولة "عليَّ وعلى أعدائي؟" (ص.92)
تثير كلارا سؤال الهويّة والغربة في الوطن كعرب نعيش داخل إسرائيل، نخاف أن يصيبنا ما يصيب العرب في غزّة وغيرها؟ نخاف أن نتحوّل إلى مجرّد حقيبة سفر تُلقى قَسرًا في بلاد لم نخترها! فنحن نعيش في عالم مجنون تخلّى عن ثوب العدل ولباس العفّة منذ زمان سحيق وارتدى ثوب الشيطان الماكر.. صار أشبه بمومس تستسلم لمن يدفع أكثر.. وقد تُرتكب الحماقات والجرائم لأتفه الأسباب!
ندى حسمت أمرها وترفض الجنّة الموعودة "أرهقني التشرد وسئمت من الضياع.. أريد العودة إلى بلدي.. إلى أرضي أزرعها وأرويها وأحصدها دونَ خوفٍ من أن تُقتلع أشجار الزّيتون وتُداس الزهور بالأقدام" (ص.131)
جاءت كتابتها بسيطة ومباشرة، انتقدت المجتمع دون تأتأة ومواربة، بصراحة وجرأة، ضاربة عرض الحائط تلك الثوابت البالية.
أخذتني قراءة الرواية للوحة "طبيعة صامتة" للفنان الإسبانيّ بابلو بيكاسو وكولاجها لما فيها من إيحاءات ثلاثيّة الأبعاد، حيث تجمع أشكال مختلفة لتكوّن عمل فنّي جديد متمرّدة على الأشكال الكلاسيكيّة التقليديّة مُحدثة صدمة بانتقالها المفاجئ من معناها الأوليّ إلى معنى آخر، فالكولاج هو تكنيك فنيّ يقوم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فنيّ جديد، نوع من الفنّ التجريديّ والتطويريّ الجاد.
قالتها بصريح العبارة في ملاحظة افتتاحيّة أنّها تكره الحبكة التقليديّة المصطنعة في الروايات، ولا تحب أن تكون مملّة ومقَولّبة، فخربطت الأوراق بحنكة ليصل كلّ قارئ إلى القصّة التي يراها ليكون شريكًا في تلك التوليفة ويكتب النصّ على كيفه، وهكذا وُلِدت رواية حداثيّة بإمتياز، رافضة تلك القيود الشكليّة التراكميّة... نعم، هذه الحداثة ... وما بعد بعد بعد الحداثة!
امتنعت كلارا في روايتها الاعتماد على التقديم الغَيري كعتبة نصيّة (وكذلك للتظهير) كما فعلت في إصداراتها السابقة، فهي بغنى عن ذلك، ووُفّقت.
كلارا ترفض لبطلتها ندى الجنّة الموعودة في مدينة كارمل Carmel الأمريكيّة، تُعيدها إلى كرملها هي، لا كرمل الغرباء! فهي تعشق حيفا وتصفها وتصوّرها بجماليّة مفرطة: "هي حسناء مغرية تورَّطت دومًا بإغواء كلّ مَن يقترب منها أو يحاول لمسها فتصيبه عيناها الخضراوان خضرةَ الأشجار الباسقة بعشقٍ يُمسِك به.. يحتلّ كيانه... سترقص أمامك بجسدها الكنعانيّ الرّشيق رقصة إغراء شهيّ، لكن برقّة رومانسيّة عجيبة تناسب كَرملها الشامخ، فيحتار قلبك في طبيعتها وتدهش من جمال قد اختُصَّت به وحدها. هي حيفا" (ص.88)
وتنهي الرواية: "قادمةٌ أنا إليك يا كرمل لأعيدَ سرد التاريخ ورسمَ رؤيا زَمَن آتٍ من وجهة نظري أنا... سأتحوّل إلى شجرة تحكي وبلبل يشدو وموجة من موجات بحر حيفا تلهث نابضة بالحكايات!!"
صدق محمود درويش حين قال دون تأتأة:
"يقول لي جدي دوماً .. بأنّ حيفا أجمل مدن العالم!
أنا لم أرَ حيفا ... وجدّي لم يرَ أي مدن العالم!"
حسن عبادي
[email protected]