الهُوية هي: "ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة! لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف" (محمود درويش)
مدخل، حول الهوية:
"لقد علمتني حياة الكتابة أن أحذر الكلمات. فتلك التي تبدو أكثر وضوحا، هي في الغالب أشدها خيانة.. ولعل أحد هؤلاء الأصدقاء المزيفين، هو بالتحديد كلمة "هُوية" (أمين معلوف، الهويات القاتلة، 1999). قد يتساءل المتلقي، وله كل الحق، لماذا اقتبست من كتاب أمين معلوف؟ وللإجابة أستعين بفكر معلوف نفسه: في كتابه هذا يطرح امين معلوف موضوعات لها راهنيتها: الهوية والانتماء والعولمة، كما جاء في تسمية الكتاب في ترجمته العربية. حكاية معلوف مع الموضوعات أعلاه بدأت سنة 1976 عندما غادر لبنان إلى فرنسا في أعقاب الحرب الطائفية والتي رأى فيها "قتل على الهوية". وعندما سُئل عن انتمائه (كما جاء على لسان عبد المجيد الجهاد، 2010) عما إذا كان يُحس في "قرارة نفسه" بالانتماء إلى فرنسا أم إلى لبنان. وكان جوابه: "إنه يشعر بالانتماء إليهما معا"(معلوف، ص: 7). وأيضا تحدث عن ذلك الطاهر بن جلون (2010) "يحدث لي غالبا أن أجد نفسي مضطرا إلى الإجابة عن هذا السؤال: هل أنت كاتب مغربي أم فرنسي؟ يتعلق الأمر بسؤال بوليسي، إذ أن الناس يرغبون في تحديد موقع لك. هل يزعجهم الكاتب الذي لا يوفر على هوية دقيقة؟...... يستلزم مفهوم الهوية العلاقة بالآخر...... أمر مؤسف؛ لأن المشهد الإنساني الذي يتحول لا يرتبط فقط برغباتنا أو إرادتنا البسيطة، ذلك أن الحياة تتكون من أشكال من الحركة والتغيير. وليس ثمة من وجود لما هو نهائي باستثناء الموت الذي يجمد ويوقف كل شيء. وكل هؤلاء الذين رغبوا في تجميد الهوية شموليون مثل الفاشستية أو التعصب الديني راهنا...... الهوية الأوروبية لحسن الحظ حية، وينبغي فقط القبول بها والاستمتاع بذلك. ويلزمنا أن نتعلم رؤية المظاهر الإيجابية للمزيج وما يمكن أن يقدمه ويسهم في تحويله نحو الأفضل. ذلك أن العيش المشترك ليس سهلا، وينبغي لنا أن نتعلم العيش مع الآخرين وأن نقبل بالفكرة التي مفادها أننا لسنا بمفردنا ولن نكون كذلك على الإطلاق. ويلزم من أجل استشراف ذلك احترام القوانين والقواعد التي يتأسس عليها المجتمع".
ومن هنا يجدر بنا أن نتساءل: هل الامر ممكن؟ هل ثمة أسئلة تدور في ذهن الفرد حول هذا الموضوع؟ على سبيل المثال وليس الحصر:
من أنا؟
كيف يعرفني الآخر؟
كيف أشعر من تعريف الآخر لي؟
كيف أريد أن يعرفني الآخر؟
القضية المهمة هنا هي الهوية وكيفية تعريفها. ما الذي يعنيه أن تكون هويتك مركبة مما هي عليه في الوقت الراهن؟
يستلزم مفهوم الهوية العلاقة بالآخر. ويعني ذلك أن مفهوم الهوية يتشكل في وقت مبكر جدا لأن العلاقة مع الاخرين تبدأ منذ الولادة ولا معنى للهوية إلا في سياق يعيش فيه أشخاص آخرون. علينا أن نعلم بأن هويتنا ليست جامدة وبأن تركيبتها ليست نهائية وبأنها تحتمل أن تشمل على وجوه وأشكال أخرى.
المشهد الإنساني لا يرتبط فقط برغباتنا أو إرادتنا إنما ايضا برغبات وإرادات اطراف أُخرى، إن الحياة تتكون من أشكال من الحركة والتغيير، ومن هنا فالهوية متحركة ومتغيره وكما قال محمود درويش: "لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر."
الهوية هي مجموع الشارات والسمات، المميزات الخاصة لدى الإنسان التي يكتسبها ويطورها من خلال حياته منذ ولادته، من خلال العلاقات المتبادلة مع البيئة حتى يعي انه مخلوق منفصل عن الآخرين، أي بمثابة بطاقة تعريف للفرد والتي يقدمها للآخرين.
هنالك نوعان من الهويات :-
-
هوية أساسية مولودة: الجنس، القومية، الطائفية، وهي ثابتة ومن الصعب تغييرها.
-
هويات ثانوية مكتسبة : طالب، معلم، نجار، محام ....., وهي في غالبيتها هويات تحتاج إلى بذل جهد ما ويمكن تغييرها.
كيف يستطيع الفرد أن يعيش مع تركيبة الانتماءات هذه ؟ أي كيف يستطيع الحفاظ على التوازن بين هذه الهويات؟
هنالك ثلاثة متطلبات لهذا التوازن: التبادلية، التماثل، الحوار.
-
التبادلية تعني: حقي بأن أحظى بالاحترام من الآخرين وواجبي أن أمنح الاحترام للآخرين. التبادلية لا تعني بأنني "أحترم من يحترمني" إنما تعتمد على "عامل الناس كما كنت تريد أن يعاملوك" فبالطبع أنت تريد أن يحترمك الناس، لذلك احترام الناس واحترام الفرد للآخرين يبدأ بشخصه وذاته أي بأن يحترم الإنسان نفسه.
-
التماثل يعني: لا توجد أفضلية للواحد على الآخر. وعلى كل فرد أن يتحمل مسؤولية خاصيته واحترام خاصية الغير. إن حقوق الواحد تحدها حقوق الأفراد الآخرين.
-
الحوار: يعتمد الحوار السليم على خمسة أسس (فيريري) المحبة، التواضع، الأمل، الإيمان بالإنسان، التفكير الناقد. "أدب الحوار ليس قول الكلام المناسب في الوقت المناسب، ولكنه أيضا "السكوت عن الكلام غير المناسب في الوقت المناسب" (دوروثي نيفيل).
من الجدير أن نعي أهمية عدم إبطال الذات أمام الآخر إنما التعامل معه على قدم المساواة واحترام الذات الفردية والذات الجماعية وأوضَح ذلك مرزوق الحلبي (2007) في مقالة له تحت عنوان " اللغة الأم وأحدب نوتردام!" يقول: "دعوتنا إلى إعادة إنتاج علاقتنا بلغتنا الأم من جديد كمدخل لإعادة علاقتنا بذاتنا الجمعية تمهيدا لعملية تثاقف لا نهرب فيها من أنفسنا/لغتنا نحو مركز اللغة الأخرى وما تتيحه بل نتفاعل معها من موقف مدرك وواع لمكانتها حيال لغتنا الأم. حديثنا هنا يسعى إلى تفكيك مبنى هيمنة اللغة العبرية وتسرّبها بوعي منا أو بغير وعي ليس إلى قاموسنا اللفظي الذي تراجعت فيه اللغة العربية وانحسر حضورها، بل إلى تصورنا للعالم وحكمنا عليه. لكن يبدو لي أحيانا أن اللجوء إلى العبرية حيزا ولغة ينطوي على اعتقاد أنها لغة الحداثة الفائقة وأنها توفّر لنا ما لا توفّره اللغة العربية. ........... لكن يُمكننا أن نشير إلى حقيقية ان اللغة العربية استطاعت بفضل كتّاب ومفكرين وفلاسفة عرب أن تخرج على نفسها وتتطور رغم جمود المجامع اللغوية وسياساتها التي تطابق سياسات الأنظمة في دولها، وأنها استطاعت بجهود الأفراد أن تتسع وتنتج ألفاظها الجديدة المعبّرة عن نهضة وحيوية. ...."
محمود درويش والهوية:
الياس خوري، 2010 يقول "أسئلة الهوية مركزية في مجمل نتاجه (محمود درويش)، لكن المقالة تتوقف طويلاً عند البدايات لما تحمله من دلالات تاريخية تضيء المسار الثقافي الفلسطيني المعاصر، وهي بذلك ليست أكثر من مقدمة تفتح باب النقاش. الياس خوري يطرح موضوع الهوية في أربعة قصائد لدرويش ويقول أنها لا تلخص الأبعاد المتعددة لتجربة الشاعر والقصائد الاربع هي:
1."بطاقة هُوية(سجل أنا عربي)"، حول الهوية العربية.
2."عاشق من فلسطين"، حول الهوية الفلسطينية.
3."على هذه الارض"، حول الهوية الفلسطينية-الكونية.
4."عابرون في كلام عابر"، حول هوية الآخر.
في قصائد درويش تبرز مراحل متعددة، تشكل وحدة عضوية في البحث عن معنى الهُوية الفلسطينية، وهنا أضيف "هُوية اللاجئ" إلى ما طرحه الياس خوري والتي نجدها في طول وعرض قصائده و"الهوية الإنسانية العالمية"، وتبدو الصورة كما يلي:
1.الهوية العربية.
2.الهوية الفلسطينية.
3.الهوية الفلسطينية في سياق عالمي.
4.الهوية في سياق هوية الآخر.
5.هوية اللاجئ.
6.الهوية الإنسانية/العالمية.
-
الهوية العربية: والقصيدة المثال على ذلك "بطاقة هُوية" (سجل انا عربي) في كتاب "اوراق الزيتون"، 1964.
"سجِّل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!
فهلْ تغضبْ؟" (اوراق الزيتون، 1964)
اسم القصيدة "بطاقة هوية" ومطلعها "سَجِّل أنا عربي" وانتشرت واشتهرت بمطلعها هذا. كتبها الشاعر وعمره 23 سنة عندما كان رفيقا في الحزب الشيوعي الذي كان له الدور الأساس في ولادة ودعم الحركة الشعرية بشكل خاص والأدبية بشكل عام ودعمها وإتاحة نشر الإنتاج في جريدة "الاتحاد" ومجلة "الجديد" والمجلة الشبابية "الغد"، قصيدة "سجِّل أنا عربي" بسيطة، واضحة، شفافة، بدون أي غموض ومفعمة بالأجواء الرومانسية. يطرح الشاعر في هذه القصيدة هُويته العربية، هوية فلاح فقير يعمل في ما تبقى له من أرض أو عامل في محجر، في القصيدة وصف لشخصية هذا العربي المرتبط بالأرض ويحذر المحتل من غضبه. إنها قصيدة منبرية تماهى معها العرب في كل مكان لأنها ترفع من معنوياتهم وهو ما كانوا بحاجة إليه. وبهذا انتشرت القصيدة واتَّسع مداها وأصبحت تشمل العربي في كل مكان على أنه يعاني نفس معاناة الشاعر، ولذلك اعتبرها الكثيرون قصيدة مقاومة للمحتل ودفاعا عن الهوية العربية. هذا التماهي يعكس الألم والخيبة من الهبوط العربي. وعلى هذا يقول الياس خوري (2010): "سوء الفهم الذي صنعته قصيدة درويش في العالم العربي، ناجم عن كلمة "عربي" في سطرها الأول، إذ فُهمت القصيدة على أنها نشيد قومي جامع يساهم في ترميم الكبرياء القومية الجريح بعد الهزيمة الحزيرانية". ومحمود يقول: "القهر الإسرائيلي جعلني عربيا"(فحماوي، 2013).
-
الهُوية الفلسطينية: والقصيدة المثال على ذلك " عاشق من فلسطين" في كتاب "عاشق من فلسطين"، 1966.
"عيونِك شوكةٌ في القلبِ
توجعني... وأعبدُها
وأحميها من الريحِ
وأُغمدها وراء الليل والأوجاع... أُغمدها
فيشعل جُرحُها ضوءَ المصابيحِ
ويجعل حاضري غدُها
أعزَّ عليَّ من روحي
وأنسى، بعد حينٍ، في لقاء العين بالعينِ
بأنّا مرة كنّا، وراءَ الباب، اثنين !"
قصيدة عشق للوطن، محبوبته وكلمة "عاشق" هي الكلمة الأولى في اسم القصيدة وهي عتبة النص، ومعشوقة الشاعر هي: الأرض، الوطن، الناس والطبيعة بكاملها. في هذه القصيدة تلعب المرأة الدور الأساس وكون الشاعر استبدل الرجل بالمرأة لتكتمل صورة المشاركة بين الإثنين لحماية الوطن. عيون حبيبته شوكة في القلب تؤلمه فهي تذكره بالنكبة والمنفى، وهو يريد أن يحمي الوطن ويدافع عنه من الريح التي هبت على وطنه فلسطين وشردت شعبه على امل العودة. حبيبته قوية فهي مسافرة بلا أهل مما يرمز إلى استقلاليتها وهو أمر ضروري لمشاركتها الرجل"، وهي راعية وفلاحة ، وهي الأرض والوطن. والأهم من كل ذلك هو أنها فلسطينية، فيتكرر الاسم سبع مرات وهذا الرقم مرتبط بالقداسة:
"فلسطينية العينين والوشمِ
فلسطينية الاسمِ
فلسطينية الأحلام والهمِّ
فلسطينية المنديل والقدمين والجسمِ
فلسطينية الكلمات والصمتِ
فلسطينية الصوتِ
فلسطينية الميلاد والموتِ."
تكرار الاسم فلسطينية سبع مرات كرمز مقدس يشير إلى حمايتها والدفاع عنها. هذا الإصرار يشير إلى البعث والإحياء والرغبة في تحرير الوطن واستعادته متمثلا في استعادة الاسم "فلسطينية":
"سأكتب جملةً أغلى من الشهداء والقبلِ
فلسطينية كانت ولم تزلِ!"
ويؤكد ذلك الياس خوري (2010) "الاسم هو أرض الصراع بشأن الهوية، فالمرأة – الأرض – الوطن، لا تستعاد إلاّ إذا استطاع الشاعر أن يسترجع الاسم الذي يريد الاحتلال محوه. والاسم الفلسطيني المستعاد هو عنوان معركة الوجود الفلسطيني الذي أُخفي تحت ركام النكبة ومآسيها". ويجدر بنا أن نذكر هنا ما قاله محمود: "الخيبة العربية جعلتني فلسطينيا"(وتد، 2013)
-
الهوية الفلسطينية في سياق عالمي، والقصيدة المثال على ذلك: " على هذه الأرض ما يستحق الحياة" في كتاب "ورد أقل"، 1986.
"علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ: تَرَدُّدُ إبريلَ، رَائِحَةُ الخُبْزِ فِي
الفجْرِ، آراءُ امْرأَةٍ فِي الرِّجالِ، كِتَابَاتُ أَسْخِيْلِيوس، أوَّلُ الحُبِّ، عشبٌ
عَلَى حجرٍ، أُمَّهاتٌ تَقِفْنَ عَلَى خَيْطِ نايٍ، وخوفُ الغُزَاةِ مِنَ الذِّكْرياتْ.
عَلَى هَذِهِ الأرْض ما يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: نِهَايَةُ أَيلُولَ، سَيِّدَةٌ تترُكُ
الأَرْبَعِينَ بِكَامِلِ مشْمِشِهَا، ساعَةُ الشَّمْسِ فِي السَّجْنِ، غَيْمٌ يُقَلِّدُ سِرْباً مِنَ
الكَائِنَاتِ، هُتَافَاتُ شَعْبٍ لِمَنْ يَصْعَدُونَ إلى حَتْفِهِمْ بَاسِمينَ، وَخَوْفُ
الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ.
عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ
الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى
فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ."
كتب الشاعر هذه القصيدة في باريس سنة 1986 وعمر نكبة فلسطين هو 38 سنة. وكأنه يقول إن فلسطين الآن تترك سن الأربعين وهي الآن في كامل زهوها ونضوجها. يستعمل الشاعر التشبيه "سَيِّدَةٌ تترُكُ الأَرْبَعِينَ بِكَامِلِ مشْمِشِهَا" ومعروف عن المشمش أنه يبقى عند نضوجه لفترة قصيرة ولذلك نقول: "جمعه مشمشية" وفي هذه الجمعة (الأسبوع) علينا اقتناء المشمش قبل نفاده من السوق. وهكذا ماذا نعمل؟ ها هي فلسطين (المرأة) بكامل مشمشها ويجب القيام بشيء ما قبل فوات الأوان كما يفوت أوان المشمش. ويعبر فيها عن حنينه وشوقه لفلسطين، وعبر عن ذلك بعدة أمور موجوده في فلسطين وتستحق أن نحيا لأجلها، لذلك يفتتح مقطوعات القصيدة الثلاث ب"علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ" وينهيها ب" سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى
فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ."
هذه النهاية هي مخاطبة فلسطيني تتوجه إلى العالم بأسره وهي متمركزة بذاتها، معلنة أنها لا تخاف من المحتل- الغازي والطاغية لأن هذا يخاف من الذكريات ويحاكم الشعب الفلسطيني على الأغنيات لأنها تخيفه. هذه الجرأة والشجاعة عند الفلسطيني لأنه مدرك بأن فلسطين، سيدته هي " سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ." هي الأبدية.
-
الهوية في سياق هوية الآخر. القصيدة المثال على ذلك هي " عابرون في كلام عابر"(1991)
"ايها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء
ايها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة اخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا"
الهوية الفلسطينية في سياق هوية الآخر، الهوية الإسرائيلية. الرواية الفلسطينية مقابل الرواية الإسرائيلية. من الواضح أن الشاعر لم يستعمل كلمة اسرائيل أو الإسرائيلي في القصيدة واستعمل كلمة العدو. نجد روايتين متناقضتين بتاريخهما وبواقعهما. الرواية الفلسطينية تصف واقع الفلسطيني المرتبط بأرضه وبجذوره والرواية الإسرائيلية تصف واقع المُحّتَل الذي يغتصب الأرض من أصحابها ولا يدرك ماهية العلاقة بين اصحاب الارض الأصليين وبين الأرض مخاطبا اياهم: "انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء"
ويكثف هذا المعنى قائلا:" منكم السيف..الفولاذ والنار...الدبابة...قنبلة الغاز ومنا:"دمنا...لحمنا...حجر...المطر. فوقنا نفس السماء والهواء. ويطلب منهم " فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا". لماذا انصرفوا؟ فالإجابة على ذلك أنهم هنا، معنا ولكن بدور وصفة المُحتَل والمغتصب ولذلك يطلب منهم أن ينصرفوا. وهنا نؤكد أن مفهوم الهوية له علاقة بالآخر. وكما ذكرنا سابقا فالهوية ليست جامدة وتركيبتها ليست نهائية وبأنها تحتمل أن تشمل وجوه وأشكال أخرى. والمشهد الكلي لا يرتبط فقط برغباتنا أو إرادتنا إنما ايضا برغبات وإرادات اطراف أُخرى. ويؤكد ذلك الياس خوري (2010) "في هذه القصيدة – البيان استعاد درويش مسألة الهوية، لكنه قام في هذه المرة بالإشارة إلى هوية المحتلين، أي أنه بنى طباقاً بين واقعين متناقضين: واقع الفلاح الفلسطيني الذي يعرف أرضه ويصنع معنى العلاقة بها، وواقع المحتل الإسرائيلي الذي لا يستطيع أن يفهم معنى هذه العلاقة... وعندما صرخت بهم القصيدة بأن ينصرفوا أصيبت الثقافة الإسرائيلية بالجنون، وانكشفت هشاشة المبنى الأيديولوجي الصارم الذي بنته الصهيونية طوال مئة عام، وجاء حجر طفل فلسطيني وإلى جانبه كلمة تروي سيرة الحجر كي يصير هذا البناء كله بدداً"
-
هُوية اللاجيء: قصائد عديدة والقصيدة المثال هي : أَبَدُ الصُبَّار (لماذا تركت الحصان وحيدا؟، 1995)
هوية اللاجئ هي هوية تخترق شعر درويش طولا وعرضا، منذ بدأ الكتابة حتى آخر كتاباته. فالتعابير: الحقيبة، السفر، هنا، هناك، الغريب،
السراب، التذكر، الانتظار، لو، كأن وغيرها كلها تعابير من الحقل الدلالي للجوء. قصيدة "أبد الصبار" هي قصيدة مركزية وأساسية تصف النكبة وسيرورة تحول الفلسطيني إلى لاجئ، إنها قصيدة حوار بين أب وابنه حول ما حلَّ بهم وينتابك الشعور بأن الأب يقوم في الحوار بدور المعلم، المربي الذي يعلم ويذوِّت في ابنه هويته الفلسطينية، ويشجعه ويدربه كيف ينجو ويؤكد له أنهم سيعودون ولكن عليه أن لا يخاف وأن يكون قويا كجده فالشجاعة والقوة ضرورية للعودة والأمر مؤكد وكل احتلال سيزول مثلما زالت احتلالات سابقة ف"تَذكَّر قلاعاَ صليبيَّةً قَضَمَتْها حشائشُ نيسان بعد رحيل الجنود"
أَبَدُ الصُبَّار (لماذا تركت الحصان وحيدا؟، 1995)
"إلى اين تأخُذُني يا أَبي ؟
إلى جِهَةِ الريحِ يا وَلَدي …
... وَهُما يَخْرجانِ مِنَ السَهْل ، حَيْثُ
أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ
الظلال على سور عَكَّا القديم -
يقولُ أَبٌ لابِنِه : لا تَخَفْ . لا
تخف من أَزيز الرصاص ! التصِقْ
بالتراب لتنجو ! سننجو ونعلو على
جَبَلٍ في الشمال، ونرجعُ حين
يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد
....................................
لماذا تركتَ الحصان و حيداً ؟
- لكي يُؤنسَ البيتَ ، يا ولدي ،
فالبيوتُ تموت إذا غاب سٌكَّانٌها ...
ويقولُ أَب لابنه : كُنْ قوياً كجدِّك!
......، فاصمُدْ معي
لنعودْ .
- متى با أَبي ؟
- غداً . ربما بعد يومين با ابني !
وتذكّرْ قلاعاَ صليبيَّةً
قَضَمَتْها حشائشُ نيسان بعد
رحيل الجنود ....
هذه هي هُوية اللاجئ: يترك بيته او يُجبر على ترك بيته. يحمل معه رموزاً، ذكرى، مفتاحاً، صورةً، حجراً صغيرًا..... الأب-اللاجئ في القصيدة يطمئن ولده بأن الاحتلال سيزول مثل سابقيه. والمطلوب هو الصمود.
-
الهوية الإنسانية/العالمية. القصائد المثال على ذلك: "عدو مشترك" (أثرالفراشة،2008) و"سيناريو جاهز" (لا أُريد لهذي القصيدة أن تنتهي، 2009).
يسعى درويش في هذه المرحلة إلى إيقاظ الضمير الانساني حتى لا يبقى هذا كما تطرحه الحركة الصهيونية والسلطة الإسرائيلية. توجهه إنساني كامل ولا يدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملة ولم يحط من قيمة عدوه المحتل، وأكبر مثال على ذلك ما يلي:
مقطع من قصيدة "عدو مشترك":
"المحاربون من الجانبين يقولون كلاماً متشابهاً
بحضرة من يُحِبُّون . أمَّا القتلى من الجانبين،
فلا يدركون إلّا متأخرين، أن لهم عدواً
مشتركاً هو: الموت. فما معنى
ذلك، ما معنى ذلك؟
كعادته يتألق محمود درويش بشعره الإنساني في هذه القصيدة "عدو مشترك": المحبة هي المحبة، والعطاء هو العطاء. إنها تعابير فوق-انتمائية. عند توقف الحرب يمضي الجنود من الطرفين، الجندي وعدوه الجندي الآخر كل الى حبيبته، وكل منهم يقول لها:
"انتصرنا لأننا لم نمت. وانتصر الأعداء لأنهم لم يموتوا." قمة القصيدة هي النظرة الإيجابية إلى العدو، إذ يقول الشاعر بلسان الجندي:
"حين عطشتُ طلبتُ الماء من عدوي ولم يسمعني"، لم يقل إن عدوه رفض اعطاءه الماء، وهذا يعني أن الجندي العدو انسان مثلي (أنسنة العدو). إنه الرقي الإنساني.
مقطع من قصيدة "سيناريو جاهز":
"لنفترضِ الآن أَنَّا سقطنا ،
أَنا والعَدُوُّ ،
سقطنا من الجوِّ
في حُفْرة ٍ ...
فماذا سيحدثُ ؟ /
سيناريو جاهزٌ :
................
أنا وَهُوَ ،
شريكان في شَرَك ٍ واحد ٍ
وشريكان في لعبة الاحتمالات
ننتظر الحبلَ ... حَبْلَ النجاة
..........................
ماذا سيحدث لو أَنَّ أَفعى
أطلَّتْ علينا هنا
من مشاهد هذا السيناريو
وفَحَّتْ لتبتلع الخائِفَيْن ِ معاً
أَنا وَهُوَ ؟
يقول السيناريو :
أَنا وَهُوَ
سنكون شريكين في قتل أَفعى
لننجو معاً
أَو على حِدَة ٍ ..."
يطرح الشاعر الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، بما يشبه الحوار بين ما الموجود وبين المنشود، إنه حوار فكري مع الآخر الذي احتل واغتصب الارض وينفي الرواية الفلسطينية ويطرح روايته التي يَدَّعي فيها أنه صاحب الأرض الأصلي.
الطرح الدرويشي للحالة الفلسطينية الإسرائيلية هو طرح جديد من خلال حوار مع عدوّه الذي سقط معه في حفرة. وكي ينجوا من الحفرة - التي ترمز إلى المخاطر والأخطاء، والوقوع في الحفرة يرمز إلى سوء التصرف، ورؤية الآخر في الحفرة هي دليل على أنه يعاني من متاعب ومخاطر وبما أنهما في نفس الحفرة فهذا يعني أن لهما نفس المتاعب والمخاطر - وللتغلب عل هذه المتاعب وتذليل المصاعب يحتاج الموجود في هذه الحالة إلى جهد وتعاون من أجل النجاة ويدعو الشاعر عدوه إلى التعاون من أجل النجاة إذ يقول:
"أَنا وَهُوَ
سنكون شريكين في قتل أَفعى
لننجو معاً
أَو على حِدَة ٍ ..."
الحوار هو الميزة الاساس في الهوية الإنسانية/العالمية/الأُممية. وورد ذلك عند الشاعر:
"والهويَّةُ؟ قُلْتُ. فقال: دفاعٌ عن الذات... إنَّ الهوية بنتُ الولادة، لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها، لا وراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدَ. في داخلي خارجي المتجدِّدُ... لكنني أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ. فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ... وكُنْ نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ/" (منفى (4) طباق (إلى إدوارد سعيد)/محمود درويش.
سيرورة الهوية عند محمود درويش تصل في النهاية إلى تفكير تأملي (رفلكتيفي) في مركزه محاسبة للذات وما أصعب أن تقوم الضحية بهذه المحاسبة ، ولكن هذه المحاسبة هي من تُعَجِّل في الحل.
النصيحة الدرويشية: سنصيرُ شعباً، إن أَردنا، حين نعلم أَننا لسنا ملائكةً، وأَنَّ الشرَّ ليس من اختصاص الآخرينْ.......
سنصير شعباً حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغَلَطْ !
النهاية:
حاولت في هذه الدراسة أن أُلقي الضوء على مفهوم الهوية عند درويش وسيرورة تطورها في فكره الشعري. استهللت الدراسة بعرض لمفهوم الهوية معتمدا بالذات على مفكرين خاضوا تجربة الهوية المركبة والانتماء مثل أمين معلوف والطاهر بن جلون وبعد ذلك إلى رأي درويش في مفهومه للهوية بالاعتماد على أقواله وأشعاره التي تعالج الموضوع من جميع جوانبه. اعتمدت بشكل كبير على دراسة الياس خوري التي أعتبرها مركزية في هذا الصدد وأضأت نقطتين أساسيتين أعتبرهما مركزيتين في شعره وهما "هوية اللاجئ" التي تخترق شعره منذ بدايته في الكتابة و"الهوية الإنسانية العالمية" والتي من خلالها يؤنسن العدو كما أوضحنا وهذا أمر في غاية الأهمية من أجل خلق حوار بناء مع الطرف الآخر.
[email protected]