لو عدتُ إلى بدايتي لما اخترتُ إلّا هذا السبيل
شاركتُ في بداية كانون الثاني عام 2009 في مظاهرات حيفاويّة، في الساحة المعروفة في طلعة شارع الجبل، ضد الهجوم السافر على غزّة، واستفزّني تعدّد الشعارات والصراخات، كلّ فصيل وشعاراته، وكانت اللغة العبريّة سيّدة الموقف، وكنت برفقة صديقي فتحي مرشود، من كبيري السنّ، عرّفني على الطبيب ياسر منصور الذي سمع سخطي على الأمر، وكان نتاج هذا التعارف إقامة منتدى الكتاب الحيفاويّ، وكان اللقاء الأول مساء الأربعاء 28.01.2009، نناقش خلاله كتابًا كلّ آخر يوم أربعاء من الشهر بتيسير الأديب حنّا أبو حنّا، وفي لقائنا الأخير في الأسبوع الفائت تناولنا كتاب خميرة الرماد للأديب حنا أبو حنا بمناسبة عيد ميلاده التسعين.
دُعيت في يناير 2005 لأمسيةٍ ثقافيّة معه في مقهى أدبيّ حيفاويّ "الدارة"، فقبلتُ الدعوة متلهّفًا للقائه، وحفل توقيع ثلاثيّة السيرة الذاتيّة، وعند افتتاح المنتدى كان ليَ الشرف أن أكون تلميذَه ليزيدني قناعةً بفنّ القراءة المُغايرة، فهو ميسّر وموجّه اللقاء الشهريّ مع كِتاب كل آخر أربعاء من كل شهر، ومنذ إقامة نادي حيفا الثقافيّ قبل سبعة أعوام بدأت ألقاه كلّ خميس، حيث يواظب على حضور غالبيّة الأمسيات ويغضبُ حين يكون النادي في إجازة، وفي السنوات الأخيرة أصبحتُ، محظوظًا، سائقَه بطريقنا مِن وإلى النادي لأستغلّه في عصفٍ ذهنيٍ ثقافيّ، عدا عن لقاءاتِنا الأخرى التي سَرَعان ما تتحوّل إلى فستق أدبي.
للأديب حنا أبو حنا إصدارات كثيرة ومنها: المجموعات الشعريّة: "نداء الجراح، قصائد من حديقة الصبر، تجرّعت سمّك حتى المناعة، عرّاف الكرمل"؛ الدراسات: "عالم القصّة القصيرة، رواية مفلح الغسّاني، روحي على راحتي: ديوان عبد الرحيم محمود، دار المعلمين الروسية في الناصرة، رحلة البحث عن التراث، الأدب الملحمي، ديوان الشعر الفلسطيني، ثلاثة شعراء: ابراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي – أبو سلمى، مذكرات نجاتي صدقي، طلائع النهضة في فلسطين"؛ الترجمات: "ألوان من الشعر الروماني، ليالي حزيران"؛ أدب الأطفال: "أحمر أخضر، أرنوب وفرفور، جحا والقمر، أصابع ديمة"؛ أدب السيرة: ظلّ الغيمة، خميرة الرماد، مهر البومة.
قرأت "خميرة الرماد" للمرّة الثانية وبهرني الإهداء: "إلى الذين يدركون نعمة الإختلاف ووَيْلَ الخلاف". الكتاب عبارة عن سيرة ذاتيّة شموليّة لشعبنا، سيرة تمزج بين الأحداث الشخصيّة لكاتبها والأحداث العامّة التي دارت في البلاد، فهو كان محورًا مركزيًّا في الكثير منها، ولم تتحوّل هذه السيرة إلى سرد للتاريخ، ولا منبر للتنظير السياسيّ وفرض وجهة النظر، فاستطاع أن يقدّم صورة واضحة غير منحازة، من وجهة نظر شخص عايش الأمور ومطّلع عليها.
يصوّر الدور الذي قامت به الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا كمدرسة ثانويّة خرّجت أجيالًا متميّزة، تبوّأ خرّيجوها مناصب رياديّة وقياديّة للأقليّة التي بقت في البلاد متطرّقًا لدور ودعم رفيق دربه المحامي حنّا نقّارة.
يعود الكاتب إلى الماضي، فترة الشباب (ظلّ الغيمة تناول طفولته حتّى شبابه)، لكنّه يعي الحاضر وعيًا تامًا، فيربط أحداث الحاضر بصراعات الماضي، لا بل يربطها بما مرّ به بعد سنين عديدة، وآلام الحاضر بأخطاء الماضي، آملًا ألّا تتكرّر الأخطاء وألّا يستمرّ الانحدار نحو المجهول.
نلاحظ الحسرة والألم على الشرخ الذي حصل بينه وبين الحزب الشيوعي وقادته، رفاق دربه لسنين طويلة، وعلى الأخصّ علاقته بإميل حبيبي التي تأزّمت ووصلت درجة التخوين، وذروتها مقاطعة جنازة المرحوم حنّا نقارة لئلّا يلتقيا على منصّة واحدة!، والحملة التي شنّها الحزب ورجالاته ضدّه التي وصلت ذروتها بالمقالة سيّئة الصيت: "هذا الفكر حان له أن يتراجع إلى المقبرة"، التي آلمته وأوجعته، وما زالت، رغم مرور عقود، مؤكّدًا قول الشاعر طرفة بن العبد: "وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ"
ومن جهة أخرى صوّر بموضوعيّة وحَنِيّة علاقته بصليبا خميس وآرنا ومشروعها الإنسانيّ الوطنيّ الذي ضحّت بحياتها من أجله.
أبو حنا نسويٌّ بامتياز، فهو نصير المرأة قولًا وفعلًا، ولها دور هامّ في حياته، يرسم علاقته على مرّ السنين برفيقة حياته سامية، من مرحلة التعرّف، فالخطوبة والزواج والحياة المشتركة عشرات السنين.
نرى إِنسانًا واثقًا بنفسه، متحدّيًا كلّ الصّعوبات، طَموحًا إِلى أبعد حدود، كان له دور رياديّ في المشهد الثقافيّ الأدبيّ المحليّ، من خلال لقاءات تثقيفيّة ومجلّات أدبيّة وإرشاد لراشد حسين ومحمود درويش، وغيرهم كُثُر، في بدايات مشوارهم الأدبي.
لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، كافح مثل أبناء هذا الشعب العامل، بالتنقّل هنا وهناك، من أجل لقمة العيش والنضال. عايش الحكم العسكريّ البغيض، ورافقه مقصّ الرقيب على الصحافة وحريّة الكلمة، ودور المخابرات الإسرائيليّة ضدّ أبناء شعبنا، العلاقة مع اليسار الصهيونيّ والأدباء اليهود وتعويله عليهم آنذاك، ملاحقة الشيوعيّين والقوى الوطنيّة، الاعتقالات السياسيّة والمحاكم العسكريّة الظالمة والسجن بسبب مواقف!، مجزرة كفر قاسم والتعتيم عليها، مرحلة الأمل القوميّ مع عبد الناصر، النكسة وأثرها وموبقاتها واللقاء بالأخوة من جناح الوطن الآخر السليب، حرب الغفران والأمل المنشود والمفقود وأحداث يوم الأرض الخالد. أطلّ علينا بشهادة موسوعيّة: فالتجربة عريضة والثقافة مُميّزة، المُتابعة دقيقة، التحليل يستندُ إلى معلومات تفصيليّة تتجاوز الأخبار، والذاكرة المميّزة التي تحتفظ بشبابها ... كل ذلك يحضر معه فإذ هو دائرةُ معارف: يعرفُ الكثير الكثير عن البلاد وأحوالها، اقتصادًا وثقافةً وتوجُهات. ذاكرته نضِرة، ومعلوماته شاملة، ثم إنّه متابعٌ دقيق وخزينه المعرفيّ يُسهّل عليه تحليل الحاضر واتجاهات الريح.
كتب أبو حنا بوضوح رؤيةٍ ورؤيا، فهو مُطّلع على خبايا الأمور لحنكته وتجربته الحياتيّة والسياسيّة وكتابه يتّسم بمصداقيّة عالية كشاهد عيان على ما حدث وليس كمؤرّخ سمع عن الحدث أو باحث قرأ عنه في بطون الصحف والكتب، ويصف الحالة الفلسطينيّة بتفاصيلها وخيباتها، والمحنة التي عايشها وبقي مرفوع الرأس، لم يرضخ للتهديدات ولم تغرِه الوعود والإغراءات.
لغة الكتاب سلسة وانسيابيّة، متبّلة بالعاميّة واستعماله للأمثال الشعبيّة كان موفّقًا: "البراطيل بتحلّ السراويل"، "أوّل الرقص حنجلة!"، "اطعم الضّاري وخلّ المشتهي"، "أعزب دهر ولا أرمل شهر"، "اللي ما بيجي معك تعال معه"، "كلّ بيت وله مصرف"، "المال بِجُرّ المال والقمل بِجُرّ الصيبان"، "مائة قَلبِه ولا غَلبِه".
أزعجتني بعض الأخطاء المطبعيّة مما ظلم حنّا، وهنا ألقي اللوم على الناشر والمُراجع المستخف بالقارئ والظالم لحنّا – أستاذ الأدباء – وكلّي ثقة بأنّها ستُصحّح في الطبعات القادمة.
وكلمة لا بدّ منها؛ تمّ إقحام بعض الفصول في الكتاب، "مقابلة" على سبيل المثال، التي رُغم أهميّتها فهي تصلح لمقالة تثقيفيّة ولكن ليست كجزء من سيرة ذاتيّة!
ينهي الأديب كتابه قائلًا: "لم يكن المسار يسيرًا، لكن كانت هناك حكمة سامية، الشريكة النابضة بالمحبّة والكتف المؤازرة بذكاء في إدارة الدفّة والشراع الذي أسعف بالتغلّب على الرياح غير المشتهاة وتحقيق الكثير" (ص. 224)
حين أنهيت قراءة الكتاب، وحسب معرفتي بأبي الأمين، كأنّي به يردّد ما قاله الشاعر لويس أراغون:
لو عدتُ إلى بدايتي لما اخترتُ إلّا هذا السبيل
وصف النُقّادُ الأستاذ حنا أبو حنا بزيتونة فلسطين، وأسمح لنفسي، وبكل تواضعٍ، أن أصفَهُ بأيقونةِ وبوصلةِ فلسطين الثقافيّة الأدبيّة.
المحامي حسن عبادي
[email protected]