قامت الثورة في مصر، ثورة ضد الملك.. " لم يكن غريبا أن يهتف عميد الأدب العربي، طه حسين هذا الهتاف عندما وصله خبر تنفيذ الانقلاب العسكري، وهو في مصيفه بشمال ايطاليا، ولم يكن غريبا أن ينعت حركة الجيش بالثورة، وبذلك كان أول مصري ينعتها بتلك الصفة. وذلك لأن ثورة 23 يوليو التي نفذها الضباط الأحرار، بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر في مصر عام 1952، والتي توسم فيها طه حسين الخير منذ البداية، حققت له حلمه ومطلبه الأول بجعل التعليم مجانيا في مصر، ورغم أنه وصل لمنصب وزير المعارف في العهد الملكي الا أنه لم يتمكن من تحقيق مطلبه كاملا في ظل تعنت الحكومة والقصر، ولما قامت الثورة استشعر طه حسين أن حلمه سيتحقق وهذا ما تم فعلا.
يلاحظ أن طه حسين من الأدباء المصريين القلائل الذين لم " يخلعوا ضمائرهم كما يخلعون ثيابهم" ولم ينقلبوا على الثورة وقائدها عبد الناصر بعد وفاته، كما فعل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وسواهما، وبقيت مكانة طه حسين محفوظة بعد الثورة، خاصة وأن الثوار رأوا " في طه حسين عقلا كبيرا ومفكرا كبيرا من مفكري الوطن". (1) ص 25
تحل ذكرى وفاة الأديب الكبير طه حسين الـ45، في 28 تشرين أول (توفي عام 1973)، في السنة المئوية لميلاد الزعيم ومفجر ثورة 23 يوليو جمال عبد الناصر، وهذه مناسبة لأن أقدم قراءة سريعة في مقالات طه حسين حول الثورة، والتي جمعت في مجلد خاص من سلسلة مجلدات لمقالات طه حسين الصحفية في مختلف المجالات. (2)
طه حسين يساند الثورة وقراراتها
لم يخف طه حسين تأييده للثورة منذ الساعة الأولى كما ذكرنا في مطلع المقال، ودعم قراراتها التي جاءت الى جانب الشعب ووضعت حدا لمعاناته من العهد الملكي المسلوب الإرادة، وعبر عن ذلك في عدة مقالات وافتتح احداها بقوله " أحب أن تكون ثورتنا حية، وأن تكون ثائرة، وأن يصبح المصريون في جديد من أمرهم كلما أشرقت عليهم الشمس وأن يمس المصريون في جديد من أمرهم كلما أقبل عليهم الليل". (3)
ومن القرارات التي دعمها طه حسين بقوة، طرد الملك فاروق خارج البلاد وقانون الإصلاح الزراعي وتأميم قناة السويس وجلاء القوات الإنجليزية عن أرض مصر، لأن ذلك يجعل المصريين يحسون " بأن الأمر أمرنا وبأنا نحكم أنفسنا لا يحكمنا فرد مسلط ولا تتدخل في حكمنا قوة أجنبية". (4)
وكما رأى طه حسين بالأمس أن الاحتفال بعيد الثورة انما يأتي من باب استخلاص العبر، فهكذا نراه اليوم عندما نحيي أياما لها علاقة مباشرة بتاريخ الرئيس والزعيم عبد الناصر مثل ذكرى الثورة وذكرى وفاته أو ميلاده، ليس للاحتفال أو الاستذكار، فقط انما للوقوف عند تلك الأيام المجيدة والاستفادة من معانيها ودروسها، ورسم مستقبل أفضل مستوحى منها، وهذا ما قصده طه حسين ونقصده معه في قوله " يجب أن نذكر ونستحضر أن احتفالنا بالثورة ليس غرضا يطلب لنفسه وانما هو وسيلة الى ان نستحضر آلامنا لنبرأ منها، ونستحضر آمالنا لنجد في تحقيقها ونحاسب أنفسنا في ثقة وقصد واعتدال." (5)
كما اعتز بالثورة وبدورها العالمي لأن " ثورتنا كانت مقدمة لاستقلال شعوب مختلفة كانت خاضعة لسلطان الاستعمار الخارجي ولسلطان الاستبداد الداخلي أحيانا".(6)
طه حسين وعلاقة مباشرة مع عبد الناصر
يلاحظ أن طه حسين ومنذ مقالاته الأولى في عهد الثورة، كان يوجه مقالاته المباشرة عندما يخاطب المسؤولين، الى جمال عبد الناصر الذي تولى منصب رئيس الوزراء، وربما ذلك جاء نتيجة حصافته وذكائه، الذي استشعر بواسطتهما أهمية عبد الناصر ودوره المركزي في الثورة، فلم يوجه خطاباته الى الرئيس المؤقت محمد نجيب بل الى عبد الناصر القائد الفعلي للثورة، وهو آمن بسعة صدر عبد الناصر واستماعه الى النقد حيث يتوجب النقد، على عكس ما يشيعه أعداء عبد الناصر أنه كان ديكتاتورا وقامعا لحرية الكلمة، وأحد الأمثلة على ذلك ما كتبه عن الحكومة مباشرة " كل حكومة لا تتيح لشعبها وسائل الجهاد في سبيل السعادة الفردية والاجتماعية، حكومة رديئة بغيضة لا حق لها في الوجود ولا حق لها في طاعة الشعب الذي تقوم على تدبير أموره ورعاية مرافقه". (7)
ويعلن طه حسين صراحة عن توجهه المباشر ودون مواربة فيقول" فهذه الأحاديث التي أوجهها إلى قادة الثورة وإلى رئيس الوزراء بنوع خاص". (8) انما كانت مقصودة وعن وعي وادراك، لذا واصل توجيه مثل هذه الأحاديث الى عبد الناصر، بعد توليه رئاسة الجمهورية أيضا وتوجيه النقد لبعض خطواته. فنجد طه حسين يكتب تعليقا على الميثاق الذي أعلنه عبد الناصر في العام 1962، وجه فيه انتقادا ورأيا مخالفا لرأي الرئيس وخاصة حول مسألة نشاط المثقفين ومهمة الجامعات وعدم طاقة الدولة بتحمل أعباء العلم للعلم " وقد وقفت عند هذه الجملة لأني أعتقد أن العلم لعلم تبعة نستطيع أن نحتملها في هذا الطور من أطوار حياتنا". (9) هكذا ناقش طه حسين قائد الثورة ورئيس البلاد دون أن يتعرض لأي مساءلة، فعن أي ديكتاتورية وأي قمع فكري يروج له أعداء عبد الناصر؟
من المعروف أن عبد الناصر تعرض لمحاولة اغتيال من قبل عناصر من تنظيم الاخوان المسلمين في 26/10/1954 في الإسكندرية، فكتب طه حسين مقالا أدان فيه الجريمة وأشاد بحسن تصرف عبد الناصر وعقلانيته وحذر من المخاطر الجسام التي كانت ستحيق بالوطن لو نجحت المحاولة الدنيئة ووجه لهم التقريع قائلا " أهذا هو الذي كان يريده أولئك المجرمون أم هم لم يريدوا شيئا ولم يفكروا في شيء، وانما أهمتهم أنفسهم وملكتهم شهواتهم ودفعتهم شياطينهم إلى الشر في غير تدبير ولا تقدير". (10)
وفي 10 أغسطس 1957 كتب طه حسين مقالا فريدا بعنوان " الناصريزم" منوها الى شيوع الكلمة في الغرب وهي من ابتكار فرنسا. ووجد حسين أن هناك كلمة أخرى وهي " الناصريت" التي لم يكتشفها الغرب وهي منسوبة الى الرئيس عبد الناصر، وهي تعكس حالة المرض التي أصابت قلوب وعقول الساسة الغربيين وخاصة عند سماعهم اسم ناصر " ففي قلوبهم مرض هو بغض جمال عبد الناصر وفي عقولهم مرض هو اتهام جمال عبد الناصر بكل شر يأتيهم من الأمم التي خضعت لسلطانهم حينا ثم أخذت تثور به وتتمرد عليه في هذه الأيام". (11)
وعندما نراجع التاريخ نعلم أنه في تلك الفترة شكل عبد الناصر مصدر متاعب للدول الغربية، وهذا ما يشير اليه طه حسين في مقاله، ويرى أن أكثر ما أزعج الغرب دعوة عبد الناصر ونجاحه في إقامة كتلة " الحياد الإيجابي" مع أصدقائه وحلفائه من زعماء العالم خاصة تيتو ونهرو، فيقول في ذلك " والكارثة الكبرى عند الغربيين وعليهم أيضا هي أن هذه الدعوة التي يدعو بها رئيس الجمهورية المصرية قد تجاوزت العالم العربي شرقه وغربه واستجابت لها أمم أخرى في مؤتمر باندونج وأصبحت لها كتلة تدعو بها في هيئة الأمم المتحدة وهي كتلة الأمم الآسيوية الأفريقية". (12)
القومية والوحدة العربية من منظور طه حسين
يذكرنا عميد الأدب العربي في مستهل مقاله " قوميتنا العربية بين الماضي والحاضر والمستقبل" والذي نشره في مجلة الهلال في عدد يناير 1959، بأن العرب دائما كانوا على خلاف منذ العصر الجاهلي ولم تجمع بينهم حينها سوى اللغة العربية، الى أن تكونت القومية العربية مع ظهور الإسلام وما حققه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية إضافة للغوية بين القبائل العربية، ومن بعده واصل خلفاؤه فتوحاتهم ونشر القومية العربية " فأنشأ الإسلام اذن أمة جديدة وجعل هذه الأمة عربية: عربية اللغة، عربية التفكير والشعور، عربية الحضارة، عربية العلم والثقافة والأدب". (13)
ويؤكد طه حسين على أن القومية العربية ضمت شعوبا أخرى تكلم أبناؤها العربية من بعد ما تعلموها، وباتت اللغة هي العنصر الأقوى في تكوين القومية التي استوعبت الجميع وباتت "عربية بدينها سواء أكان هذا الدين إسلاما أم كان نصرانية". (14) وأهم مزايا القومية العربية أنها حرة ومتسامحة ومفتوحة الأبواب على الثقافات الأخرى، وهذه هي القومية التي نريدها ونؤكد عليها، وليس القومية التي يصورها أعداؤها على أنها منغلقة وشوفينية، فكيف تكون القومية العربية من المنظور الناصري شوفينية، وهي التي لجأ إليها أحرار العالم، وهي التي دعمت حركات التحرر في كل أصقاع الأرض، وأنشأت مع حلفائها كتلة "الحياد الإيجابي" ومنظمة الشعوب الآفرو – آسيوية؟ ورأى طه حسين في الوحدة العربية هدفا قوميا ينبغي أن يقوم على أسس سليمة، لذا تجنب الحديث عن الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا، إلى أن وقع الانفصال فانبرى طه حسين ينافح عن الوحدة التي " انما قامت على عهد مؤكد وميثاق مشدد لا بين الحكومتين في مصر وسورية بل بين الشعبين المصري والسوري". (15) ومن هنا أهمية الحفاظ عليها وعدم التفريط بها.
ناصر يحقق حلم طه حسين بمجانية التعليم
واظب طه حسين في رفع مقولته الشهيرة " التعليم حق للجميع كالماء والهواء"، ليس كشعار فقط بل عمل على تطبيقه في أرض الواقع، ونجح في تحقيق جزء منه عندما عين وزيرا للمعارف في نهاية الحقبة الملكية (1950-1951)، لكن هذا المطلب لم يتحقق كاملا إلا بعد قيام الثورة، أولا حين أقر دستور عام 1956 حق المصريين بالتعليم واشراف الدولة على التعليم العام في جميع مراحل المدارس بالمجان. وفي عام 1961 أعلن عبد الناصر اتاحة التعليم الجامعي بالمجان وهكذا حقق مطلب طه حسين العادل والتام.
وأمام ذلك لم يتردد طه حسين أن يقول على الملأ للرئيس عبد الناصر، عندما قام بزيارة الجامعة المصرية وكان حسين رئيسا لها: "أهدي اليك باسم الألوف من طلاب الجامعة أعمق الشكر لما أوليتها من العناية والرعاية والمعونة رغم الأعباء الثقال التي لم يحملها أحد قبلك في رياسة الدولة".
خاتمة
رغم أن طه حسين كان يبلغ الثالثة والستين عندما قامت الثورة التي قادها عبد الناصر في سن الرابعة والثلاثين، إلا أنه وقف إلى جانب ثورة الضباط الشبان مؤيدا قراراتها وخطواتها ومنافحا عنها في كل ميدان وخاصة الكتابة والاعلام، وأكثر ما أثار غضب طه حسين موقف الدول الغربية من ثورة بلاده واستقلال ارادتها، الأمر الذي يتعارض مع ما تنادي به الدول الغربية من شعارات الحرية والمساواة والديمقراطية، وصب جام غضبه على فرنسا التي درس فيها وتعلم مبادئ الإنسانية والحرية فيها فتبين له أن كل ذلك كذبة كبيرة، وبين طه حسين حقيقة تآمرها على مصر الدولة والثورة، وما كتبه في ذلك الوقت ينطبق على ممارسات فرنسا في السنوات الأخيرة بحق سوريا ومشاركتها في التآمر على الدولة السورية، ومحاولات الولايات المتحدة شراء شعوب الشرق الأوسط، كما يحدث اليوم. كما أدان قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن المعادية لحقوق العرب. فلو عاد طه حسين اليوم الى الحياة هل كان سيكتب مقالات جديدة أم يعيد نشر مقالاته التي كتبها قبل نصف قرن؟!
(شفاعمرو / الجليل)
إشارات:
(1): انظر الإشارة (2) ص 25
(2): تراث طه حسين، المقالات الصحفية من 1908-1967، الجزء السادس، طه حسين وثورة يوليو 1952، دراسة د. أحمد زكريا الشلق، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، 2006
(3): ن. م ص 77
(4): ن. م ص 84
(5): ن. م (ص123)
(6): ن. م ص 332
(7): ن. م ص 122
(8): ن. م ص 115
(9): ن. م ص 363
(10): ن. م ص 162
(11): ن. م ص 282
(12): ن. م ص 283
(13): ن. م ص 325
(14): ن. م ص 326
(15): ن. م ص 353
[email protected]