عشية حلول يوم الثامن والعشرين من أيلول كل سنة، تعود بنا الذكريات والمشاعر الى ذلك التاريخ من عام 1970، يوم أن صدمت الأمة العربية بالخبر الصاعق الذي شلّ كل تفكير، الخبر الذي لف العالم العربي، وعالم المناضلين الشرفاء في كل المعمورة، بالحزن الشديد والشامل. الخبر الذي لم يتوقعه ولم يحتمله أحد، وهو وفاة الرئيس والزعيم العربي العالمي جمال عبد الناصر، بعدما أنهى مؤتمر القمة العربية الذي دعا اليه في القاهرة، بهدف حقن الدماء الفلسطينية- الأردنية في مجزرة أيلول الأسود.
وفي كل عام نتذكر ونستذكر. نتذكر القائد العربي الكبير الذي أحيا القومية العربية وحقق أول وحدة عربية حقيقية. القائد الذي جعل القضية الفلسطينية قضية شعب وحقوق وطنية وليست قضية لاجئين واستعطاف. القائد الذي تصدى للاستعمار ومخططاته الخبيثة، ووجه له الضربات القاسية منها تأميم قناة السويس وبناء السد العالي. الرئيس والأب الذي أنصف الفلاحين وأنهى الاقطاع والعبودية فوزع عليهم الأراضي، ووقف الى جانب العمال فبنى لهم المصانع والمساكن وأتاح للفقراء مجانية التعليم. نستذكر أعمال ومنجزات عبد الناصر لنتعلم منها ونعمل على تطويرها. نستذكر تجربة عبد الناصر لنقف عند ايجابياتها الكثيرة وندرس سلبياتها القليلة.
يذهب البعض الى توجيه اللوم الينا أو النقد أو السخرية أحيانا، لتمسكنا بذكرى وطريق عبد الناصر، اما بحسن نية منهم أو من منطلق ضرورة فهم خاطئ للتمسك بهذا الطريق الذي يرون فيه ماضيا فقط، وهؤلاء نناقشهم ونحاورهم. أما الذين يهاجمون عبد الناصر ويعملون على تشويه صورته الناصعة بشكل متواتر ومن منطلق الحقد، فلن نلتفت اليهم ولن نناقشهم لأن منطلقاتهم عدائية تنبع من الكراهية العمياء، ولأن ادعاءاتهم وحملاتهم الظالمة فشلت ووصلت الى طريق مسدود، لذا يلجأون الى تكرار أكاذيبهم ويصدقونها هم أنفسهم ولا أحد غيرهم. فالرموز تحيا مهما تعرضت لحملات اغتيال معنوية، تهدف الى قتل وتشويه الصورة المشرقة لكوكبة من القادة الوطنيين المناضلين في العالم، كما تؤكد حلقات البرنامج الجديد الذي بدأت فضائية "الميادين" ببثه هذا الأسبوع.
واذا ما عدنا الى برنامج وثائقي آخر بثته فضائية "الميادين" صيف العام المنصرم 2017 بعنوان " جمال عبد الناصر- زيارة جديدة" وخاصة الحلقة الأخيرة " ما بعد الرحيل"، نتأكد بأن عبد الناصر ما زال حيا وما زال نهجه السياسي وتراثه الإنساني مقصد الملايين ليس حنينا للماضي فقط، بل من أجل تجاوز الحاضر التعيس نحو مستقبل سعيد، فحلكة الليل تليها فجر جديد. ورغم حالة اليتم التي شعر بها العرب بعيد رحيل قائدهم وزعيمهم جمال عبد الناصر الذي رأوا فيه الأب والراعي، حتى الذين تلقوا خبر وفاته وهم في السجون في عصره ومنهم أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي بكوه وشعروا بحجم الخسارة وعبر عن ذلك أحدهم وهو الكاتب صلاح عيسى الذي قال في البرنامج المذكور " وقع علينا الخبر الذي يصعب تحمله، وكأن الدنيا خلت من ركن ركين من أركان الأمة"، رغم كل ذلك تحاول مجموعات ولو كانت قليلة، تتشكل في عدة دول عربية وخاصة في عام المئوية لولادة عبد الناصر، لاعادة وهج الناصرية وطرح رؤيتها السياسية التي أثبتت الأيام أنها الطريق الذي ينقذ الأمة العربية من مأزقها المأساوي.
وفي برنامج "الميادين"، عبر مواطنون في الشارع العربي عن شعورهم لدى سماعهم اسم عبد الناصر، وماذا يخطر ببالهم فقالوا بعفوية وصدق: أشعر بالعروبة والوطنية والكرامة.. أذكر الصناعة والفقراء.. وقوفه الى جانب البسطاء والغلابى.. مثال للوطنية والنزاهة والرجولة.. أيام حلوة. ويختصر المناضل العروبي اللبناني نجاح واكيم بأنه عندما يرى الشباب الصغار الذين لم يعيشوا في عصر عبد الناصر، يرفعون صوره في المظاهرات فانما ذلك يعبر عن رفع قيمة للمستقبل. نعم عبد الناصر ليس قيمة للماضي فقط انما قيمة للمستقبل. فاذا نظرنا بلمحة الى واقعنا العربي لن نجد أمامنا من حل لهذا الواقع المؤلم والصعب من انقسامات وعودة للعشائرية والفئوية، الا التمسك بالقومية العربية التي أكد عليها عبد الناصر وعززها، وفعلا في عصره ذابت تلك الانقسامات والانتماءات الصغيرة واندمجت في الانتماء الكبير الجامع للعرب وهو القومية.
من هنا فان مسؤوليتنا كبيرة في ضرورة إعادة طريق القومية، القومية التي تعتز بشعبها لكنها تحترم إرادة الشعوب الأخرى، تقوم على الإنسانية وتعزيز العيش المشترك بين مركبات مجتمعنا العربي، وبذلك نكون قد حققنا وصية القائد جمال عبد الناصر الذي دعانا الى مواصلة الطريق مرددا أن القومية العربية ولدت قبل عبد الناصر وستبقى بعد عبد الناصر.
[email protected]