كنت محظوظًا حين سنحت لي الفرصة لأعيش مسرحيّة "36 شارع عبّاس حيفا" على مسرح كريغر الحيفاوي يوم الجمعة 10.08.2018، بحضور أهل الحيّ ومن عايش منهم أحداث المسرحيّة، حيث لها في حيفا نكهة ومذاق آخر.
احتشد الحضور أمام القاعة بانتظار الدخول وكان باديًا الانفعال من المسرحيّة وبطتلها رائدة طه في مونودراما فلسطينيّة بامتياز.
بدأ العرض بتأخير 32 دقيقة، وهذا مأخذ يُؤخذ على المنظّمين، فعليهم احترام التوقيت لبناء ثقافة مسرح واحترام الفنّ، فالمسرح ثقافة.
تقف رائدة طه على خشبة المسرح لتحكي قصّة نضال، سارة وعلي رافع، سكّان عمارة في شارع عبّاس الحيفاوي، وقصّة عائلة أحمد، دينا وفؤاد أبو الغيدا – أصحاب العمارة الأصليّين، قصّة عائلتين نموذجيّتين لقضيّة البلد وتشتيت أهلها.
مثّلت رائدة وحدها جميع الشخصيّات وتحدّثت بلسانهم، لتغوص في عمق التجربة الإنسانيّة ببراعة، جاعلة البطولة الحقيقيّة لعائلتين؛ من النكبة إلى النكسة، وما بينهما وبعدهما وفلسطين اليوم...والغد!
تبدأ المسرحيّة بالنشيد الإسرائيلي، بالعبريّة، وشلنغر النمساوي يستولي على بيت أبو الغيدا الحيفاويّ لتتشتّت العائلة عبر البحر؛ "سفن حاملة فلسطينيّين رايحين وسفن حاملة يهود جايين"، أهو حلم أم حقيقة؟ والحلم صار حقيقة، فرائدة لم تكن تحلم بذاك النشيد المقيت الذي استولى على الحيّز حتى جاء المحامي الجليليّ علي رافع ليطلب يد سارة المقدسيّة فاشترطت مهرها بيت في حيفا يطلّ على بحرها، وكان لها ما طلبت ولكن صُدمت حين زار البيت بولس فرح ليقول لها: "هذا البيت إلو صحاب" فتعرف الحقيقة أنّ زوجها اقتناه من شلنغر المغتصِب، أمّا أصحابه الحقيقيّون فهم عائلة أبو الغيدا المشتّتة.
سارة المقدسيّة، سجينة أمنيّة محرّرة، تصرّ على التحدّث بالعربيّة فقط، شعرت بالغربة في بيتها وهكذا ربّت أولادها، أقنعتهم أنّ البيت أمانة في أعناقهم وعليهم إعادته إلى أهله حين يعودون من النزوح إلى الوطن، فالبيت ليس لهم وليس من حقّهم.
تثير المسرحية تساؤلات كثيرة، على سبيل المثال، البقاء مع جنسيّة اسرائيليّة مقابل التهجير واللجوء والتشتّت، وضياع الوطن. أمّا الباقون فمتّهمون بالعمالة والتعايش مع العدوّ رغم أنّه صمد ولم يترك بيته وحافظ على أرضه، وبالمقابل من طُرد وهُجّر وأُجبِر على الرحيل يصير لاجئًا بلا بيت ولا وطن. كذلك مسألة تأنيب الضمير كونهم يعيشون في بيوت لفلسطينيين لاجئين في الشتات، يسمعون أصوات أرواحهم في نومهم، وتلاحقهم في أحلامهم ويقظتهم.
تنجح نضال الابنة بالتواصل مع عائلة أبو الغيدا فتُقنع فؤاد بزيارة البيت في يوم النكبة 15 أيار 2010، بدعوة من عائلتها، وصوّرت رائدة هذا المشهد بأدقّ التفاصيل، فرحة العودة واستقبال العائدين من قبل أهل الحيّ، ولا يغيب عنها ردّ فعل الجارة الصهيونيّة، حين فهمت ما يدور حولها وعودة صاحب البيت الفلسطينيّ قامت برفع العلم الإسرائيليّ من نافذتها قائلة: "اذا هيك مع عائد واحد، فكيف مع الباقين"!
راقت لي الكوميديا السوداء التي سيطرت على بُنية المسرحيّة ومشاهدها، بطولها وعرضها. من خلال المسرحيّة يطلّ علينا والد رائدة الحقيقيّ، ففي يوم 08.05.1972 قامت مجموعة فلسطينيّة بخطف طائرة سابينا البلجيكيّة بعد وصولها الى مطار اللد، مطالِبين إطلاق سراح مئة أسير فلسطيني من السجون الاسرائيليّة، فألقي القبض على المجموعة، وقُتِل علي طه أبو سنينة، والد رائده، لتعيش يتيمة الأب، تستعيد رائدة مشهد استشهاد الأب في مطار اللد، فكان مشهدًا مؤثّرًا ورائعًا من حيث الحبكة والتمثيل، ولكنّه أُقحم على المسرحيّة بلا سبب.
خلت خشبة المسرح من الديكور، ولكن، برعت رائدة بتصوير ديكور بيت رافع والشرفة التي تطلّ على البحر، فتنقّلت بين شخصيّاتها وسردت حكاية كلّ منهم بطلاقة وانسيابيّة، وتقمصّت دور كلّ من سارة وعلي ونضال (ولأنّي أعرفهم شخصيًا) على أتمّ وجه، بل أبدعت،. ثمّ صوّرت موقف إيمي الجارة التي وجدت عند شرائها البيت صورًا ووثائق لعائلة أبو غيدا النازحة فتعطيها لسارة، منها لوحة كُتب عليها "القناعة كنز لا يفنى"، والتي بقيت في البيت، لعائلة أبو غيدا، وما زالت معلّقة على حائط الصالون عند عائلة رافع، شاهدة على الجريمة.
انتهت المسرحية بنشيد موطني، فأبدعت رائدة مع المخرج جنيد سري في عمل مسرحيّ متكامل حين يُنشد النشيد الفلسطينيّ ورائدة والجمهور رغم الألم والفقدان، دلالة على استمراريّة فلسطين.
أعذروني يا من قمتم بهذا العمل الرائع، ولكن، عدم توزيع مطويّة ببرنامج الأمسية وأسماء طاقم العمل، حال دون إنصافي لكم ، فردًا فردًا، فحبّذا لو نال اهتمام المسؤولين وتعاملوا معه بدرجة أعلى من المهنيّة، كما هو متبّع في المسارح العالميّة (فهناك لمحة قصيرة عن كلّ من يساهم بالعمل، كما يُضاف عرض موجز للمسرحية).
كثيرة هي البيوت وأبوابها في حيفا التي تنتظر مفاتيحها!
[email protected]