خلال زيارتنا للنرويج دعانا أخي د. يوسف عراقي المغترب عن حيفاه منذ النكبة لنشارك يوم الأربعاء 27.06.2018 حفل افتتاح المعرض الاستعاديّ الأوّل لصديقِه الفنان سمير سلامة في غاليري "وان" في رام الله، تردّدنا في بادئ الأمر لانشغالات منتصف الأسبوع، إلّا أنّنا تحقيقًا لرغبته قرّرنا المشاركة، وسافرت برفقة زميلي فؤاد والوالد مفيد نقارة ولم نندم!
لم يكن معرضًا عاديًّا، بل عرضًا لتاريخ وحياة الفنّان لعشرات السنين، جمعت لوحات البورتريه -رسم الوجوه- لوحات ومجسّمات بألوان مائيّة وزيتيّة وإكليريك. وشمل أعمالًا للفنّان في مجال الفنّ التشكيليّ، وجسّد تطوّر أسلوبه ولخّص الدوافع الفنيّة النابعة من التحدّي الحضاريّ الذي نعيشه، ليمسي مصدرًا للتعلّم والتجربة والتاريخ.
شكّل المعرض تجربة الفنّان وتطوّر مسيرته الفنيّة منذ اللجوء والمنفى القسريّ إثر النكبة. حيث غادر سمير مدينته صفد عندما كان في الرابعة من عمره، عام 1948 مع أفراد عائلته تحت تهديد الترحيل القسريّ في زمن النكبة. نجح سمير في انتزاع حقّه المدنيّ بتثبيت مسقط رأسه على الورق الرسميّ الذي يثبت شخصيّته حين أصرّ على كتابة صفد الفلسطينيّة فوق جواز سفره الفرنسيّ، بعد أن لجأ للقضاء، ليحظى بالهويّة الحقيقيّة لمدينته في ورقة رسمية أجنبيّة يتيمة كشفت حجم التنكّر لفلسطينِه.
عرفني سمير حين دخلت صالة العرض من خلال صور زوّده بها أخي يوسف وناداني، كان جالسًا على مقعد متحرّك وفي فتحتي خيشومه أنبوبا أكسجين، وجهاز التنفّس المتنقّل مربوطًا بأنفه على الدوام، متحديًا السرطان اللعين والموت، وعيناه تشعّان حياة وأملًا وإصرارًا لمن يحبّ الحياة، فعانقته عناق الأخوة، عناق أخوة من جناحيّ الوطن السليب، لأنّ على هذه الأرض من يسحق الحياة... ومن يستحقّها. ثمّ تجوّلنا معه بين اللوحات المعلّقة على جدران صالة العرض، ووثّقها أخي فؤاد بكاميرته الثقافيّة.
تروي لوحات سمير قصّة شعب بناسِه ومدنِه، قصّة فنّان مرهف الحسّ، رغم تقلّبات الظروف السياسيّة والاجتماعيّة وتأثيرها عليه ليترك بصمته المميّزة، ليلعن العتمة ويعلن بزوغ الضوء والأمل من رحم المعاناة.
شارك سمير في عشرات المعارض، وله مئات الأعمال واللوحات نتاج عشرات السنين، ممّا صعّب عمل الفنّان خالد حوراني - قيّم المعرض- ورغم ذلك برع في خلق معرض خاصّ ومميّز يليق بسمير ومسيرته ونجح في إيصال الرسالة على أتم وجه.
لفتت انتباهي وجذبتني لوحات وأعمال الفنّان المميّزة، أسلوبًا ومضمونًا، والتي تؤكّد ارتباطَه بقضيّته الفلسطينيّة بعُقدِها، محافظًا على إنسانيّته وحبّه للخير والحياة والإنسان، معلنةً عن صاحبها بأنّه أحد أيقونات الفنّ الفلسطينيّ.
وجدت في لوحاته المؤثّرة نوعًا من التحدّي والرسالة، كلّ منها تختلف عن الأخرى، يحمل النكبة على كاهله ويحلّق بعيدًا في عالم الفنّ كي لا يُثقل على أحد، يصوّر بريشته معاناة شعبه ويحكي حكايته، بوقار شيخ صوفيّ، بعطاء فنّي مستمرّ... يصرخ صرخته لأخيه وللعالم: "لنا عودة"!
صدق من سمّاه "بابا نويل الفنّ الفلسطينيّ"..
رسم سمير بريشته مدينة درعا وأهلها، دمشق القديمة، حُماة القرية، باتّجاه الظلّ، القدس ومعالمها وشبابيكها، عين كارم، أريحا وضواحيها، بيت لحم وسِحرها، البحر الميّت، الناصرة والجليل، وكلّ فلسطين.
ملاحظة لا بدّ منها؛ أمقت ظاهرة التقاط الصور مع المشاهير، ولكن هذه المرّة وجدت نفسي واقفًا في طابور طويل مع العشرات من مختلف الأجيال الذين حضروا خصّيصًا لحفل الافتتاح. قلت في حينه : نعم "بعدها الدنيا بخير"، لأنّنا شعب يستحق الحياة!
تواصل معي سمير في الأسبوع الفائت بشأن ترتيب معرض له في النادي.
اليوم صباحًا بعثت له معايدةً بمناسبة عيد ميلاده؛
وبعدها بنصف ساعة صُعِقت برسالة من الفنّان سليمان منصور يقول: "الصديق العزيز والاخ الحبيب والفنّان المبدع سمير سلامة في ذمة الله".
رحمك الله عزيزي سمير وأسكنك فسيح جنّاته.
ونعدك بأنّنا سننفّذ وصيّتك وسيكون لك معرضٌ في حيفا يليق بك وبفنّك.
المحامي حسن عبادي
16.08.18
[email protected]