الحديث عن فلسطين بلغة الفن هو ايقاع مختلف، فالمتابع لمعاناة التهجير واللجوء والمجازر الصهيونية والعربية يفهم معنى أن يفقد الانسان كل شيء! ولأكثر من مرّة بل مرّة تلو الأخرى. هذا ما رافق المُهجرين الفلسطينيين من ديارهم. ونظرة سريعة عابرة لمسيرة الفنان عبد العال تؤكد ذلك. وحال المرحوم توفيق عبد العال هو حال الكثيرين من المبدعين الفلسطينيين. وفي هذا السياق أجد ثلاث محطات ميّزت مسيرة عبد العال الفنيّة.
ولأن المسيرة الثقافية للفلسطينيين من خلال روّادها وعبد العال أحدهم، عبّرت، بقصد أو بغير قصد، عن تاريخهم وبالتالي هي سيرتهم. وهي مَهمّة حملها المبدعون سواء من كتبوا النثر أو الشعر، أو أي لون من الوان الابداع.
غني عن الاشارة أن توفيق عبد العال مارس الرسم وتنقل بين مدارسه المختلفة وكان من روّاد مجموعة البعد الواحد* كما مارس النحت على الخشب وكتب الشعر أيضًا.
بمعنى": أن تكتب الفجيعة الفلسطينية بأعلى درجات الإبداع"
١. يتشابه المبدعون الفلسطينيون في المعاناة خلال مسيرتهم الابداعية، ثم الموت الأليم والبشع، أو التغييب والطمس والاجحاف بحقهم، فالوطن (الداخل) والوطن العربي (مهجر الفلسطينيين) يملك كثيرًا من الرصيد في هذا المجال. فيُقتل المبدعون والعاديون منهم وتُرتكب المجازر بحقهم وحق الابرياء منهم كثيرة ومتعددة، وتل الزعتر خير شاهد. كما «صبرا كفر قاسم دير ياسين شاتيلا» ولاحقًا يتم التغييب والصمت على مرتكبي الجريمة ولا تتم محاكمة ومعاقبة أي من مرتكبي هذه الجرائم.
في صيف 1987 تعرض الفنان عبد العال لاعتداء ميليشياوي مسلح في بيروت أصاب بصره بضرر بالغ، وظل يفقد البصر بالتدريج حتى بات كفيفاً عاجزاً عن الرسم وهو في أعلى حقبة لنضجه الفني الابداعي، ورحل صيف 2002!!.
* لماذا لا يجرؤ أحد على ذكر الطرف المعتدي ويغيب المجرم الفاعل من سيرته الذاتية؟ كما غُيّب القاتل من سيرة الفنان المبدع ورسام الكاريكاتير ناجي العلي؟ والكثير من المبدعين والمؤرخين والمثقفين العرب!.
*. عندما كان التشكيلي اللامع توفيق عبد العال مراهقاً في العشرين من عمره رسم لوحه تحت عنوان (لبؤة في الليل) سنة 1957. وَظّف فيها براعة شاب يافع في استخدام العناصر الواقعية، التعبيرية والسيريالية.
تكشف اللوحة عن إمرأة مستلقية نصف عارية يظهر منها النهد والساق واليد وبوجه هادئ جميل جداً يتناقض مع شراسة اللبؤة. لماذا غُيّبت هذه اللوحة عن معظم المعارض باستثناء معرض واحد أقيم مطلع الستينات في بيروت؟ ثم اختفت اللوحة!.
لماذا لا نملك الحق في أن نكون عاديين ?أوَليست مفارقة أن يناضل الفلسطيني كل حياته ليعيش كما كل البشر! في وطنه وأرضه. كل رغبتنا في أن نكون عاديين وليس أبطالاً، إننا أبطالٌ رغمًا عنّا. ولأننا لا نملك خيارًا سوى أن نقاوم ولن نساوم.
٢. تمكن المحتلون من طرد الفلسطينيين من أرضهم وتم تهجيرهم وتشتيتهم في المنافي ولكن لم يتمكن المحتل من إخراج فلسطين من وعي ووجدان الفنان والمبدع الفلسطيني، وهذا ما تجلّى في كثير من الأعمال واللوحات لتوفيق عبد العال وشكّلت عكا كما يافا وبحرها والصيادين وشباكهم كما لم تغب فلسطين بناسها ببحرها، سهولها بياراتها وجبالها عن أعمال الفنان، ظل وسيبقى هاجس فلسطين ملازمًا لكل فنان فلسطيني وعربي حقيقي.
وأخيرًا، ولأننا في حضرة الزعتر، وفي ظل هذه السوداوية لا بُدّ من الأشارة للأهمّية القصوى في شحذ الذاكرة وإحياء الذكرى؛
إن الاخـتراق الـثـقافي هـو اغــتــيال رمزي، وهو قـتل معـنوي له، يتربص بالشخصية ويـطال مسألة استلاب الإرادة وكذلك احتلال العقل وطـمـس ذاكرة وطن، بل قـتـل حقيقة وحق فلسطين في الوعي العام.
أصاب طيّب الذكر المرحوم الأديب سلمان ناطور عندما قال؛ "ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة" ستأكلنا الضباع.
لن أطيل، بل أشير؛ ان هذا بالضبط ما قصدته وتسعى لتحقيقه المؤسسة الاسرائيلية من الاستفراد بقطاعات من أبناء شعبنا من سلب ممنهج للهوية، اللغة، والذاكرة الجمعية لنا كشعب وأفراد.
لن تأكلنا الضباع.
ظافر شوربجي
* جماعة “البعد الواحد”:
تعتبر هذه الجماعة تتويجًا لظاهرة الحروفيّة العربيّة حيث تقدّم مجموعة من الحروفيين العراقيين بتجاربهم الفنيّة الخاصة. رغم أنّ الجماعة عراقيّة، إلّا أنَّ تأثيراتها الفنيّة ستمتد إلى خارج العراق خاصةً وأنَّ فنانيها قد صاحبوا أعمالهم ببيانات وكتابات نظرية وفنيّة عمّقت البحث الحروفي. هذه الجماعة هي في الأساس معرض فني ووثائقي جرى في بغداد في 1971، بعد أن ظهرت الفكرة، لأول مرة، في 1969؛ وهي فكرة تنظيم معرض عن تـأثير الحرف في الفن التشكيلي. ساهم في إنضاج هذا المشروع: جميل حمودي، ضياء العزاوي، رافع الناصري، عبد الرحمن الكيلاني محمد غني، وشاكر حسن آل سعيد الذي قام أيضًا باعداد كتاب خاص بهذه المناسبة.
المقصود بـ”البعد الواحد” هو اتّخاذ الحرف الكتابي نقطة انطلاق للوصول إلى معنى الخط كقيمة شكلية للحرف. والرجوع إلى بُعد للخط كانتماء إسلاميّ عروبي مناقض للبعد الثلاثي في اللوحة الغربيّة. شكّلت هذه الجماعة، أول مدرسة حديثة، اهتمت بإدخال الحرف العربيّ في عالم الفن التشكيلي المعاصر وتطويعه فأبدعت مجموعة من الأعمال الفنيّة عربيّة السمة، إسلاميّة اليد واللسان، شرقيّة الهوى والنكهة.
[email protected]