صدر في عيد العنصرة الأخير (أيار الماضي)، كتيب من 40 صفحة صادر عن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، يحمل في طياته الرسالة الراعوية الحادية عشرة، بعنوان " مسيحيو الشرق اليوم: مخاوف وآمال"، وهي نتاج الاجتماع السنوي للبطاركة والذي عقد في المقر البطريركي في الديمان (لبنان) بين 9 و11 آب 2017 أي قبل عام بالضبط، فماذا قال البطاركة وما هي المخاوف والآمال التي درسوها وبثوها لجمهور مؤمنيهم قبل عام. هذا ما سنحاول مراجعته وقراءته في هذه العجالة، وقبل الولوج في قراءة الرسالة نشير الى الآية التي ثبتها البطاركة كشعار لاجتماعهم وعلى غلاف الكتيب " يشتدّ علينا الضيق من كلّ جانب ولا نُسحق، نحار ولا نيأس" ( 2 قورنتس 4:8) وهي ذات دلالة مباشرة لما تحمله رسالة البطاركة، تتأكد مع قراءتها حتى النهاية.
** تربية جديدة لتكوين انسان عربي جديد **
توزعت الرسالة على ثلاثة فصول ونداء وخاتمة إضافة الى المقدمة. يخصص مجلس البطاركة الفصل الأول للمؤمنين معترفا بأن الصمت أبلغ من الكلام في الوضع الذي وصلنا اليه من مطاردة وقتل وتشريد ومحاولات تهجير يرفضها المجلس مؤكدا للمسؤولين أن " أفضل مساعدة تُقدَّم لمؤمنينا هي أنْ يبقوا في بلدانهم" وتثبيت وجودهم فيها مكان رسالتهم التي اختارها الله لهم.
ويستمع البطاركة الى شهداء المسيحية في الشرق الذين ضحوا بأرواحهم واستشهدوا لكونهم مسيحيين، وينقلوا لجمهور المؤمنين رسائل أولئك الشهداء وهي: " أن نجدِّد محبَّتنا بعضنا لبعض، أن نجدِّد صلاتنا وأن نحدث تجديدًا في كنائسنا" (ص 11-12). ولا يكتفي شهداؤنا بهذا بل يوجهون رسالتهم لمضطهديهم على مثال معلمهم السيد المسيح – له المجد- كي يمكنهم رؤية الله وأبنائه، حيث أن " دم الشهداء يبشِّر بحياة جديدة، بولادة جديدة للإنسان العربيّ المسيحيّ والمسلم والدرزيّ" (ص 12).
في الفصل الثاني يوجه مجلس البطاركة رسالته لمواطني وحكام الدول العربية، حيث يطلب من الحكام أن يستمعوا لشعوبهم وخاصة الفقراء والمظلومين منهم ويطالبهم " أن يبنوا لنا الدولة المدنيّة التي تساوي بين جميع مواطنيها، لا يفرّق شيء بين مواطن ومواطن، لا الديانة ولا أيّ سبب آخر". (ص 20) وذلك يشكل مخرجا للوضع المأزوم الذي يعيش فيه الوطن العربي اليوم، والذي يجب أن تساهم به القيادات الدينية بصفتها خادمة للناس. وكل ذلك يستدعي إيجاد " تربية جديدة لتكوين انسان جديد".
والفصل الثالث يتوجه لصانعي السياسة في الغرب الذين يخططون ويتدخلون في دولنا ووطننا العربي ويجلبون له المآسي " سياسة الدمار الغربيّة هذه في الشّرق هي نفسها التي تسبَّبت بقتل وتهجير الملايين من بلداننا، بمَنْ فيهم المسيحيّون". (ص 30) وكما تميز الرسالة بين وجهي الغرب الحكام وأصحاب النفوذ من ناحية والجمعيات والكنائس والشعوب من ناحية ثانية، كذلك تميز بين القاتل الظاهري في الشرق وهو المسلم المتطرف و " القاتل الحقيقيّ أصحاب القرار في الغرب وحلفاؤهم في المنطقة الذين يريدون خلق شرق أوسط جديد، بحسب رؤاهم ومصالحهم". (ص 30) هذا الشرق الذي حاولوا فرضه على شعوبنا من خلال ركوبهم على موجات الاحتجاج الشعبية وتحويل الربيع العربي الى خريف دموي بامتياز، حيث لا يأبه الغرب "سواء متنا أم حيينا فذاك بالنسبة إليهم سواء" أو " أن يدمّر شعوبنا ويُعيد تنظيمها كما يشاء".
** السلام في المنطقة ضمان بقاء إسرائيل **
هو نداء قصير وفق مقولة "خير الكلام ما قل ودل" وهو صريح ومباشر لا يقبل التأويل والتفسير، حيث يقول مجلس البطاركة لأصحاب القرار السياسي في الغرب " أمّا إسرائيل التي تريدون أنْ تبقى، فبقاؤها مشروط بشرط واحد بسيط، وهو أَلاّ يكون بقاؤها على حساب بقاء الشعب الفلسطينيّ". (ص33) كلام واضح لا لبس فيه، وموقف جريء وشجاع قلما نسمع مثيله اليوم في عالمنا العربي الذي تخلى بمعظمه عن الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
أما القدس لب المشكلة والقضية يجب أن يحافظ على قدسيتها " لا تجعلوها مدينة حرب. فهي مدينة مقدّسة للديانات الثلاث وعاصمة للشعبَين". ويعود البطاركة على هذا الموقف بوضوح أكبر في خاتمة الرسالة حين يؤكدون " إنّ السّلام في القدس وفي فلسطين وإسرائيل هو مفتاح السّلام في المنطقة وفي الغرب نفسه".
ولا يخشى بطاركة الشرق من تحديد العلاقات والولاءات كما فعل السيد المسيح – له المجد- حين دعا الفريسيين أن يعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فيتوجه البطاركة بكل حدة ووضوح لحكام الغرب " أنْ نعيش معًا مسيحييّن ومسلمين، فهذا شأننا. أمّا أنتم، صنّاع القرار في الغرب، فلا توظّفوا التطرُّف الدينيّ في سبيل إثارة الفتن بين شعوب المنطقة، ولا تقيموا بلدًا على بلد كما هي الحال اليوم". (ص 34)
** بوصلة الرسالة: بقاء وأمل **
تشكل الرسالة الراعوية الحادية عشرة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، جوابا لكل من يتساءل عند كل محنة ما هو موقف الكنيسة من هذه القضية أو تلك أو أين هو صوت الكنيسة! إن صوت الكنيسة حاضر في كل مسألة وقضية، وهو ليس صوت رد الفعل كحال معظم هيئاتنا وأطرنا العامة، صوت الكنيسة صوت نبوي، أي يقدم لنا تشريحا للداء ويقدم العلاج بعيد المدى وليس من خلال المسكنات، وهذا ما يجب أن يدركه أولا جمهور المؤمنين المسيحيين الذين تتوجه اليهم الرسالة، وكذلك للأخوة المسلمين والدروز في الوطن الواحد، الذين لا تصلهم هذه الرسائل بالشكل المباشر. ومن هنا أهمية تعميمها ونشرها بكل الوسائل، حتى تصل اليهم وتطمئن فلوبهم، الى أن الكنيسة الشرقية تنطق وتعكس موقف المسيحيين في الشرق والذين هم " مكوِّن أصيل وجزء لا يتجزّأ من الشّرق مع كلّ مكوّنات الشّرق". وهويتهم هي هوية بلدانهم. ومن هنا فان تحدي بقاء المسيحيين في الشرق العربي كما يراها البطاركة والمؤمنين " القضيّة المسيحيّة، أو مستقبل المسيحيّين، ليست فقط قضيّة مسيحيّة، بل هي قضيّة المنطقة كلِّها بما فيها من مسيحيِّين ومسلمين ودروز" والتي رآها على هذا النحو أكثر من مفكر ومثقف عربي مسلم.
وطالما كانت هذه رسالتنا وهذه هويتنا وهذه رؤيتنا، فلا نستغربنّ أن تعتمد الرسالة تلك الآية التي تلخص كل ما جاء فيها وتؤكد بوصلة الخلاص " يشتدّ علينا الضيق من كلّ جانب ولا نُسحق، نحار ولا نيأس".
[email protected]