بعد الأجواء المتفائلة بقرب التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس برعاية مصرية، وبمشاركة الأمم المتحدة، ودعم قطري وأميركي ودولي، أَجّلت الحكومة الإسرائيلية اتخاذ القرار متذرعة بضرورة أن يشمل أي اتفاق عودة سلطة الرئيس محمود عباس إلى قطاع غزة، وإطلاق سراح الجثث والجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى "حماس"، والتردد في إجراء هدنة طويلة الأمد لا تشمل نزع سلاح المقاومة والالتزام ببقية الشروط الإسرائيلية المعروفة، وذلك رغم إيحاء إسرائيل في الفترة الأخيرة بأنها غيّرت موقفها، إذ لم تعد تشترط موافقة "حماس" على الاعتراف بها وبقية الشروط حتى تعقد هدنة طويلة معها.
السبب المعلن وراء التردد الإسرائيلي وجود خلافات داخل حكومة نتنياهو، وربما السبب الآخر أنها لا تريد الموافقة على شيء من دون أن تضمن موافقة "حماس"، لأنها – أي "حماس" – ستفكر أكثر من مرة قبل أن توقع على هدنة طويلة الأمد، مما يعطي الانطباع بأن خيارها الإستراتيجي باعتماد المقاومة المسلحة قد وصل إلى طريق مسدود، مما يحول سلطتها في غزة إلى سلطة مدنية، وسلاح المقاومة إلى خردة وينحصر استخدامه في الدفاع عن السلطة.
كما أن "حماس" لا شك أنها ستحسب حساب ردة فعل حلفائها المحليين والعرب والإقليميين، وخصوصًا إيران، قبل أن تقرر المضي قدمًا في عقد هذه الهدنة الطويلة، فإيران يمكن أن تبلع تهدئة، أما هدنة طويلة الأمد فصعب بلعها.
لم يُتّفق على هدنة طويلة الأمد، ولم ير النور اتفاق المراحل الأربع الذي ذكرت العديد من المصادر بأننا في ربع الساعة الأخير للوصول إليه، والذي يتحقق من خلال معادلة هدنة لمدة سنوات عدة، تحافظ على سلطة "حماس" مقابل وجود شكلي مفضّل لسلطة عباس أو من دونه، على أن يتم رفع الحصار عن القطاع، الأمر الذي من شأنه - إذا لم يكن ضمن وحدة وطنية على أساس شراكة ورؤية - أن يؤدي إلى تعميق الانقسام وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية.
كان يبدو خلال الأشهر الماضية أن إسرائيل بصدد تغيير موقفها التقليدي الذي يقوم على أن "حماس" إذا أرادت أكثر من معادلة "هدوء مقابل هدوء" عليها أن تقدم أكثر، ولكنها لم تغير موقفها جوهريًا حتى الآن.
بمعنى أوضح، أبقى موقف الحكومة الإسرائيلية في اجتماعها الأخير كل الاحتمالات مفتوحة، ما يعني أن الكفة مالت فيها لصالح تأجيل اتخاذ القرار.
إسرائيل مترددة ما بين عقد هدنة طويلة مع "حماس" من دون اعتراف ولا نزع سلاح ولا تسليم الجثث والأسرى وبدون عودة سلطة عباس إلى غزة، أو هدنة مع عودة السلطة، وهذا ما تفضله، لأنه سيقود إما إلى تطويع "حماس" وإدماجها في السلطة والعملية الجارية، أو إلى اقتتال فلسطيني جديد تخرج منه إسرائيل منتصرة حتمًا.
وإذا نجحت السلطة في فرض سيطرتها، أو لم تنجح، إن لم تكن ضمن وحدة وطنية حقيقية، فهذا وذاك يسهل تطبيق مؤامرة ترامب التي تقوم في أحد أركانها على أن قطاع غزة هو الكيان الفلسطيني، أو مركزه الأساسي، الذي يمكن أن تلحق أو لا تلحق به المعازل الآهلة بالسكان في الضفة والمنفصلة عن بعضها البعض، ما يسهل تحقيق أحد أهم أهداف إقرار قانون القومية الذي أقره الكنيست الإسرائيلي، المتمثل بضم الضفة، أو مناطق (ج) التي تشكل أكثر من 60% من مساحتها.
أما "حماس" فيُحسب لها أنها لم توافق حتى الآن على الاعتراف بإسرائيل وبقية الشروط الإسرائيلية. ويُحسَب عليها أنها ما زالت تعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة على أي شيء آخر، فهي مع الهدنة طويلة الأمد ما دامت تضمن استمرار سلطتها، ومع المصالحة ما دامت تضمن رواتب موظفيها وبقية مصادر حكمها حتى لو اقتصرت فقط على تمكين الحكومة، في حين المطلوب منها التمسك بمقاربة الرزمة الشاملة التي تهدف إلى وحدة وطنية حقيقية قادرة على شق طريق الخلاص الوطني.
"حماس" أمام سيناريوهات أحلاها مر: إما بقاء الوضع على حاله، وهذا ينذر بالانهيار أو الانفجار الذي قد يكون ضمن احتمالاته ثورة أهل غزة ضدها؛ أو مواجهة عسكرية غير متكافئة مع الاحتلال الإسرائيلي في ظروف فلسطينية وعربية ودولية غير ملائمة، وسط تغييرات تحدث في الإقليم، وبحاجة إلى وقت حتى تستكمل، خصوصًا في سوريا بعد انتصار نظام بشار الأسد وحلفائه (حلفاء "حماس" القدامى)؛ أو تسليم القطاع للسلطة من الباب إلى المحراب؛ أو إحراز مصالحة لا تنهي حكم "حماس" ولكنها تقلل منه، أو هدنة لسنوات عدة يتحقق فيها وقف المقاومة مقابل رفع الحصار.
هناك ما يشير إلى أن "حماس" تفضّل مصالحة لا تنهي حكمها للقطاع، وهذا ما يرفضه الرئيس و"فتح" حتى الآن، ما جعلها تقبل الهدنة طويلة الأمد التي ترفضها إسرائيل حتى الآن، فلا يبقى أمامها إلا الموافقة على تجديد التهدئة المترافقة مع وقف الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، وإبعاد مسيرات العودة عن السلك، مقابل تخفيف الحصار، وهذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا، وتحقيقه يعني عودًا على بدء، وأن تبقى الأمور مرشحة لكل الاحتمالات، بما فيها المواجهة.
وحتى يكتمل المشهد، لا بد من ملاحظة أن القاهرة قدمت ورقة مصرية جديدة الشهر الماضي تبدو فيها مختلفة عن اتفاق 2017، إذ اقتربت كثيرًا من مطالب "حماس"، فيما يتعلق برفع الإجراءات العقابية على غزة، ودفع رواتب الموظفين الذين عينتهم "حماس"، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتفعيل لجنة منظمة التحرير، إلّا أنها اضطرت إلى تغييرها مجددًا بعد رفضها من "فتح"، لأن وجود السلطة ضروري لتحقيق الهدنة طويلة الأجل، وغير ضروري بنفس الدرجة لاستمرار معادلة "هدوء مقابل هدوء".
في هذا السياق، طرحت مصر الورقة الجديدة التي وصفها عزام الأحمد بأنها أقرب إلى وجهة نظر "فتح". والآن أصبحت "حماس" مطالبة بالموافقة عليها من دون تعديلات جوهرية، وهي تعطي الأولوية لتمكين حكومة رامي الحمد الله.
يبقى الآن أن نحاول تفسير موقف الرئيس وحركة فتح مما يجري.
إن مفتاح هذا التفسير أن الرئيس يعطي الأولوية لاستمرار الوضع الحالي ولتعزيز سلطته في الضفة وسيطرته على المنظمة قبل أي شيء آخر، وهذا يظهر من جملة القرارات التي اتخذت من عقد المجلس الوطني ونتائجه ودعوة المجلس المركزي للانعقاد، وكيفية توزيع دوائر المنظمة على أعضاء اللجنة التنفيذية وكأنها من اختصاص الرئيس وليست قرارات هيئة جماعية.
وحتى تكتمل الصورة، فإن ما جرى أثبت أن تجاوز السلطة في أي حل طويل الأمد يخص غزة صعب كونها تمثل الشرعية المعترف بها، ولأنها لا تزال ملتزمة بالتزامات أوسلو، وهذا يعطيها مبررًا قويًا للاستمرار من حكام واشنطن وتل أبيب، رغم رفضها لصفقة ترامب الذي لا يوفر - إذا بقي ضمن هذه الحدود - إمكانية لإحباطها، بل سيعرقلها ويؤخر طرحها رسميًا، في ظل مواصلة فرض الخطة على أرض الواقع، كما نشاهد فيما يجري في القدس واللاجئين والاستيطان ورفض قيام الدولة الفلسطينية، والاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي وحقها بإبقاء سيادتها وسيطرتها الأمنية من النهر إلى البحر حتى بعد الحل النهائي.
لا يريد الرئيس أن يكون ذكر النحل الذي يموت بعد التلقيح، وأن يستبدل أو تقل الحاجة إليه بعد منح المخطط الجاري حول القطاع شرعيته، ولا أن يواصل الرفض ويساهم في تحقيق ما حذّر منه من فصل القطاع عن الضفة في نفس الوقت الذي يستمر فيه مخطط تصفية القضية، بما في ذلك مواصلة ابتلاع الضفة المفترض أنها تحت سيطرته، لذلك اختار سابقًا فرض العقوبات على غزة لدفع "حماس" لقبول شروطه: سلطة واحدة، وسلاح واحد تحت سيطرته الكاملة، أو دفع الناس للثورة عليها، أو لتتحمل "حماس" مسؤولية ما يجري.
هل يستمر الرئيس في هذا الموقف بعد أن قدمت مصر ورقة جديدة لصالحه، وبعد أن انقلبت سياسة فرض العقوبات على قطاع غزة عليه، بدليل أن "حماس" استمرت لاعبًا رئيسيًا رغم مأزقها الشديد، وكادت أن تصل إلى هدنة مع إسرائيل، لم تتحقق حتى الآن، ولكنها يمكن أن تتحقق في مرة قادمة، وخصوصًا أن البديل الوحيد عن حكم "حماس" الآن هو الفوضى، لأن السلطة و"فتح" غير جاهزتين، وإذا لم يتجاوب الرئيس رغم تقديم ورقة جديدة سيدفع الثمن لكل من يشارك في هذه الخطة.
في كل الأحوال، الأسبوع القادم حاسم، وسنعرف هل سنسير نحو "هدوء مقابل هدوء"، أو "هدوء" يتطور إلى هدنة طويلة الأمد، أو مواجهة عسكرية، وهل ستكون هناك مصالحة أم لا؟
المخرج واضح: سلطة واحدة وسلاح واحد وقيادة واحدة بعيدة عن التفرد والهيمنة الفردية أو الفصائلية أو غيرهما، ضمن شراكة كاملة بعد الاتفاق على رؤية وطنية شاملة تنبثق عنها إستراتيجية موحدة وإرادة سياسية مستعدة لدفع الأثمان المطلوبة.
[email protected]