بصوته المتهدّج القوي بدأ حديثه عن حياته الممتدة بالطموح والثبات على المبدأ، ممزوجاً بخفة الظل، شهر واحد يفصل تاريخ ميلاده (5 نوفمبر 1929) عن تاريخ وفاته (4 ديسمبر2017)، وبينهما مسيرة قضاها في خدمة الثقافة والتعليم. تابع تجهيزات المبنى الجديد الخاص بمؤسسة القطان للثقافة والعلوم في فلسطين، ودعاني لحضور افتتاح المبنى، لكنه رحل قبل الموعد، ويبدو أن القدر شاء أن تكون مقابلته الأخيرة مع القبس التي احبها وتابعها منذ صدورها. وفي غيابه لبّيتُ الدعوة، جلت في المبنى الأخضر، انه صرح ثقافي يضم مكتبة زوجته ليلى مقدادي، و«جاليري» لاحتضان المعارض الفنية، ومسرحا واستوديوهات عدة، ومساحة للعمل مع الأطفال والمعلمين، وبيتا للضيافة وفضاءات خارجية عديدة.
.. هو عبد المحسن القطان، الكويتي الفلسطيني الذي لم يبحث عن المال او السياسة لكنه كان حكيما في المجالين.. كان سعيداً بهذا الحوار مع القبس، فإذا القدر يجعلنا نكتب قصة حياته.
في حي الجبلية بمدينة يافا، ولد عبد المحسن الابن الثالث للعائلة، في منزل كبير يتسع لأربعة أخوة وأختين، ووالديه حسن وأسماء، والكثير من الأقارب الذين ترددوا على المكان المطل على البحر، جاء مستعداً لأمواج البحر، واعتاد العوم فيه منذ الصغر.
هو من عائلة متوسطة استطاعت أن تكون أول من امتلك مذياعا في الحي، فَشُرعت أبواب البيت لتستقبل الراغبين في الاستماع إلى المذياع. واحتفظت ذاكرة عبد المحسن بمشهد والده مرحباً بالضيوف ووالدته في المطبخ تعد واجب الضيافة.
«النهضة» والسكاكيني
أنهى عبدالمحسن دراسته الاعدادية في المدرسة الأيوبية في يافا، ونقله والده لمتابعة دراسته الثانوية في كلية النهضة بالقدس، وفيها تتلمذ على مؤسس الكلية ومديرها الأديب خليل السكاكيني. الشخصية التي كان لها تأثير عميق في نفس الفتى.. قال: «السكاكيني علّمني عالوطنية»، فقد كان يصطحبهم أسبوعياً إلى بيته، حيث يعيش مع ابنه وذكرى زوجته المتوفاة، ويقدم لهم «الجاتوه» بنفسه.. قال القطان: أذكر كلامه جيداً، مؤلفاته للأطفال كلها وعظ وخطب كنا نحفظها، هو أستاذ لغة عربية بارع وصاحب تطلعات ثورية ومواقف احتجاجية.
انتخبه زملاؤه في كلية النهضة رئيساً للعُرَفاء، أي مسؤولاً عن تمثيل المدرسة في المناسبات وإلقاء الخطب، في إذاعة الكلية، فهو البارع في ذلك، كيف لا وقد نما برعاية من السكاكيني ومؤلفاته، وكان مشغوفاً بشعر المتنبي وأحمد شوقي.. وأتاحت الكلية له ولاقرانه ملعبها الكبير وأخذتهم في رحلات إلى مسبح جمعية الشبان المسيحيين، كانت مكاناً لتعلّم «الوطنية» قولاً وتجربة، ولم ينس القطان صديقه المكافح صالح برانسي الذي سجنه الإسرائيليون مراراً..
بيروت الحرية
أخذته ظروف العائلة التي شتتها النكبة إلى تخصص أقرب إلى مهمة اعالة عائلته، فدرس إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت حتى عام 1951، حيث أصبح عضواً في اتحاد الطلبة، ونشط في جمعية العروة الوثقى العريقة التي كانت تصدر مجلة شهرية تحمل اسمها، كُتّابها من الطلبة. صار القطان رئيس تحرير المجلة ونائباً لرئيس الجمعية، كتب وزملاؤه ضد الصهيونية، وناصروا الثورة الجزائرية، ودعوا إلى الوحدة العربية.. «كان الطلبة من الدرجة الأولى علمياً وفكرياً» كما قال القطان.
لم يكن بالامكان أن يكون للحب متسع، وان وجد فإنه يذوب في الجماعة، ولا مكان للقاءات الثنائية، الحب يعني الزواج، ولو استطاع عبدالمحسن الزواج لتزوج مبكراً، كما قال. أحب في الجامعة، ولكنه لم يستطع فتح هذا الباب، وما زالت وصية والدته قبل سفره للدراسة تُجَلجِل: «دير بالك من النسوان».
بيروت بالنسبة إليه هي المدينة التي يستطيع الإنسان فيها أن يعبر عن نفسه فكرياً وسياسياً، لذا نظّم وزملاؤه العديد من النشاطات السياسية والثقافية، وشاركوا في تظاهرات دعماً لفلسطين. قال: «لم يسألنا أحد ماذا نفعل ولماذا؟» وأضاف: «لبنان البلد الجميل حيث صيدا الجبل.. والشتاء للتزلج».
العمل في الكويت
ألقت النكبة بظلالها على عائلته التي رحلت قسراً إلى العاصمة الأردنية عمان، ولحق بها عبدالمحسن ثم حصل على عمل في الكويت مدرسا للعلوم التجارية لمدة عام، وكان يرسل راتبه إلى أهله، ثم عاد إلى التدريس في الكلية الاسلامية في عمان. وبترشيح صديق له في الكويت، حصل على عرض للعمل في وزارة الكهرباء والماء. وعمل مراقباً عاماً في الوزارة، وهو ابن خمسة وعشرين عاماً.
عبر عن حبه للكويت التي قدمت له الكثير، وتحدث بفخر عن التطور الذي حققته، فهي اليوم «لديها وفرة في المياه والثالثة عالمياً في معدل استهلاكها، فالوقود رخيص ولا ضرائب، ويستخدمون المياه المقطرة لغسل السيارات، وفيها محطات التقطير..».
قضى عشر سنوات في الوزارة، ساهم خلالها في بناء شبكة الكهرباء والماء. قال: «من دون الكهرباء والمياه من الصعب البناء والعيش، اذا وجد المال الكافي والخبرة يحصل البلد على ما يريد، وفي الكويت يتوفر المال وتم استجلاب الخبرة وهذا سر انفتاحهم».
الزواج
ربما كانت الصدفة هي التي جمعته بزوجته ليلى، كان يعرف أخاها، وذهب معه للقاء والده درويش المقدادي في دمشق، وكان يشغل منصب مدير التعليم في الكويت، فإذا بصبية في العشرين تقدم له عصير الليمون، والدتها متوفاة لكن زوجة ابيها امرأة رائعة، ألمحت إلى الزواج، فتحولت العلاقة العائلية إلى نسب. التقيا مرات عدة في الكويت، ثم ذهب عبد المحسن وأخوه الأكبر وأصدقاؤه لطلب يدها.
تزوجا وعاشا في الكويت، حيث عملت زوجته مدرسة للغة الانكليزية، وانجبا نجوى ولينا وهاني وعمر.
وخلال عمله وعمل زوجته في الكويت، كانا يساهمان في الانفاق على تعليم اخوته، وفي دعم تعليم الفلسطينيين، وهكذا بدأت مسيرة دعم التعليم، التي تطورت لاحقا، فكانت مؤسسة عبد المحسن القطان.
أكبر الشركات
ورغم منصبه في وزارة الكهرباء ودخله الجيد، قرر عبد المحسن التوجه للعمل الخاص. وعمل بجد ثم شارك خالد يوسف المطوع عام 1966 واسسا شركة حققت نجاحا كبيرا. وبعد خمسة وخمسين عاماً صارت الشركة واحدة من الشركات الكبرى في المنطقة، التي تصل أرباحها إلى خمسين مليون دولار سنوياً. وحين سألته عن رأسمالها، قال ببساطة: يمكن 100 أو 200 او 300 مليون! ربما هي إجابة رجل مال يسخر من المال، فالقيمة الحقيقية لديه هي بتعب السنين ومراكمة العطاء.
الشأن السياسي
لم يتفرغ القطان يوماً للعمل السياسي. اختاره احمد الشقيري حين كان رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية ليرافقه في زيارة إلى الصين للتعريف بالقضية الفلسطينية، وهناك التقى الوفد الزعيم ماوتسي تونغ وتبادل معه حديثاً امتد لأربع ساعات، واعتبر «ماو» فلسطين مثل جزيرة فرموزا لا بد من استعادتها.. ترك اللقاء أثراً كبيراً في نفس عبد المحسن، ودهش لطلب الزعيم الصيني التقاط صورة له مع الوفد الفلسطيني.
التقى القطان وعبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورجل الأعمال الفلسطيني حسيب الصباغ وأبو عمار وجورج حبش عام 1967، واتفقوا على صياغة رسالة تطالب الشقيري بالتنحي عن رئاسة منظمة التحرير. قال القطان: إن الشقيري كان شهماً ووافق، وتم تشكيل لجنة لعقد المجلس الوطني وصياغة الميثاق الوطني.
وفي المشاورات التي سبقت انعقاد المجلس، بمقر الجامعة العربية في القاهرة، تم اختيار القطان رئيساً للمجلس، وكان صغير السن نسبيا، ورفض ذلك، وحتى صباح اليوم التالي بقي رافضاً، لكن توافق الفصائل ونداء الواجب الوطني جعلاه يوافق..
طرح تأسيس لجنة تنفيذية جديدة، فوافقت «فتح» في المساء، ورفضت في اليوم التالي، وأصر القطان على ضرورة الاتفاق على قيادة واحدة بشرط أن يكون كل السلاح والمال بيد القيادة، وتكون الحرية للجميع في النقد. فشلوا في الاتفاق، فانسحب القطان من المجلس الوطني وهاجم الحضور قائلاً لهم: «أنتم لستم أهلاً لقيادة الشعب الفلسطيني»!
رغم محاولات عدد من القيادة اقناعه بالبقاء، ثبت على المبدأ وقال: «كي أضحي عليهم أن يضحوا، لكنهم لم يستطيعوا وخافوا، لم يكن لديهم النضج الكافي في أواخر الستينات، انسحبتُ رئيساً وبقيت عضواً في المجلس الوطني».
أبو إياد الأكثر حكمة
كان القطان مُقَرَّباً من القائد الفلسطيني الشهيد أبو اياد (صلاح خلف). وعند اجتياح بيروت في 1982 ازدادت العلاقة بينهما متانة، لا سيما مع تقديم القطان الدعم المادي والمعنوي للثورة الفلسطينية. ويرى القطان ان «ابو اياد» «صاحب الشخصية القوية والكاريزما والأكثر حكمة بين القيادات الفلسطينية.
ويذكر أن «أبو عمار» لجأ إليه حين كان الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية ضعيفا يعمل بميزانية نصف مليون دولار، بينما مطلوب منه أن يدعم جميع الفلسطينيين. قال: «جاءني أبو عمار وهو مستاء من ضعف الصندوق، وطلب مساعدتي، وعينني محافظاً لفلسطين في الصندوق عشرين عاماً. تضاعفت ميزانيته ووصلت المعونات إلى مئة مليون دولار».
وخلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، التقى القطان وعبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورجل الأعمال الفلسطيني حسيب الصباغ في منزل القطان في لندن للبحث عن طريقة لدعم الشعب الفلسطيني، واقترح القطان وقفية للشعب الفلسطيني تقدم دعماً في مجالات الصحة والتعليم والتنمية، وهكذا تم تأسيس مؤسسة التعاون عام 1987. دفع كل منهم مليوني دولار. وكان القطان رئيس مجلس الادارة، وبقي حتى وفاته عضواً فخرياً، يعمل على إيجاد الحلول والمساعدة حين يُطلب منه ذلك.
اختلفت مع عرفات
قال القطان عن ياسر عرفات: «اختلفنا على احتلال الكويت وعلى اتفاقية اوسلو». حاول القطان وعدد من اصدقائه ثني أبو عمار عن موقفه من الغزو العراقي للكويت، ولكن من دون جدوى، فأصدر القطان وإدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد وشفيق الحوت بياناً صحافياً ضد الغزو شجبوا فيه موقف القيادة الفلسطينية. واستقال القطان من عضوية المجلس الوطني عام 1991 اثر هذا الموقف.
أما الخلاف الثاني، فكان حول اتفاقية أوسلو، فقد كان يرى أنها تحتوي على نقطتين ستكسران الفلسطينيين، اولاهما قضية القدس التي بقيت مؤجلة، قال: «لا يجوز أن يتغير من معالمها شيء»، والثانية «ضرورة وقف الاستيطان بالمطلق، وأن وعود بيريز في هاتين القضيتين كاذبة».
رأى أن القيادة الفلسطينية التي وافقت على اتفاق أوسلو «قيادة غير مطلعة على العالم، ولا تجيد الإنكليزية، ولا تعرف كيف يفكر العالم، وهذه كانت النتيجة، ولو رفضوا أوسلو ماذا كان سيحصل؟».
العودة إلى يافا
عاد عبدالمحسن بعد 51 عاماً من الغياب إلى يافا بدعوة من جمعية يدعمها، صار منزل العائلة قرب مستعمرة «بيت يام» الإسرائيلية، وشاء القدر أن يصل في الفترة الذي عرض فيه المنزل للبيع في المزاد العلني بحجة أنه «أملاك غائبين» بحسب القانون الإسرائيلي العجيب! قال بأسف: «أخذوا كل البلاد!»، وأراده القدر أن يحصل على الهوية الفلسطينية قبل خمس سنوات فقط من وفاته.
بدأ القطان بمليون دولار خصصها لمؤسسة القطان ثم ضاعف المبلغ إلى خمسة ملايين، ثم إلى واحد وعشرين مليون دولار. وقبل وفاته أخبرني أنه يحلم بتخصيص ربع ثروته لمؤسسة القطان ولإيمان العائلة بالفكرة ضاعف المبلغ، واليوم للمؤسسة وقفية قيمتها أكثر من مئة مليون دولار تحافظ على بقائها واستقلاليتها. وقال لي: «وصيتي تخصيص ربع ثروتي للمؤسسة، ثم كل من يعمل معي من سائق إلى مدير، ثم أولادي وبناتي الذين ستكون حصتهم الأقل».
(نقلًا عن القبس الكويتية)
[email protected]