"ريحة الحبايب"
استقلّت سُميّة سيّارتها متّجهة نحو بلدة "كيرم مهرال" التي تبعد نحو عشرين كم إلى الجنوب من مدينة حيفا، لتُشارك زملاءها في العمل في يوم ترفيهيّ في أحضان الطبيعة... كانت منقبضة الصدر على غير عادتها...
وصلت مركز البلدة، حيث تجمّع ثلاثون من زملائها، يهودٌ وعرب، وعلى رأسهم مديرتها غالية، التي اقترحت بدورها بدء اللقاء بجولةٍ في البلدة يرافقها مرشد "سياحيّ" انتدبته من جمعيّة "الحفاظ على الطبيعة".
بدأوا الجولة سيرًا على الأقدام في مباني البلدة وجوارها، زاروا الكنيس الذي كان مدرسةً يومًا ما، المتحف الذي كان قلعة الماضي فيما مضى في أربعينيّات القرن الماضي، المسجد المهدّم وبلاطه الذي يشهد على فخامته آنذاك، مكتب البريد الفخم الذي كان مقهى عامرًا أيّام الزمن الجميل، بقايا ثلاث معاصر زيتون يدويّة وواحدة آليّة،موقعًا أثريًّا يشهد على تلٍّ من الأنقاض، آثار خربة كبّارة وخربة الماقورة المجاورتين، وادي الحمام ووادي المغارة، مرورًا بالآبار والينابيع، تحيطها مناطق جبليّة حُوّلت إلىمتنزّهات تتخلّلها ينابيع عدّة وجداول وآبار، بساتين زيتون تطلّ على أراضي أمّ الزينات، دالية الكرمل، عين حوض، المزار، جبع وعين غزال... ويسترسل المرشد بالشرح عن تاريخها اليهوديّ ومعالمها وأسماء عبريّة، تلموديّة وتوراتيّة.... إنّها إجزم!
وصلوا بيت غالية ساعة الظهيرة.. كان بيتًا قديمًا مبنيًّا من الحجر، لكنّه رمِّم وأُصلح حتّى يصلح للسكن، فأمسى بيتًا فاخرًا ذا حجرٍ نظيفٍ، تُحيطه أشجار الزيتون المعمّرة، أشجار التين وخلايا النحل، وبئر كفريّة(رومانيّة). وفي باحة البيت فرن طابون، هناك كانت تجلس ربيحة الجزماويّة، قرويّة سبعينيّة، تخبز المناقيش بالجبن، البصل والزعتر. وبعد أن تبادلت سُميّة معها أطراف الحديث تبيّن لها أنّ ربيحة تشتغل في المستوطنة منذ عشرات السنين، وتعمل في بيت غالية يومين من كلّ أسبوع؛ تنظّف البيت، ترتّبه، تطبخ لها الطبخات العربيّة لكلّ الأسبوع، تحضّر التضييفات الشرقيّة، وخاصّة حين يحضر ضيوف المؤسّسة من خارج البلاد، من المسخّن والمحاشي على أنواعها: ورق دوالي، كوسة، باذنجان، قرع ولسيّنة، ثمّ المناسف.. وحين سألَتها لماذا تقوم بهذا العمل في سِنّها غصّت عيناها بالدموع :"ريحة الحبايب يا خالتي"!
عادت سُميّة إلى بيتها وكلّها حسرة وندم لمشاركتها في ذاك اليوم الترفيهيّ...
مضت ثلاثة أسابيع على ذلك اليوم المنحوس، جلست سُميّة ترتشف قهوة الصباح في غرفة غالية، تتباحثان في شؤون العمل والمؤسّسة، إلى أن دقّ الهاتف عشرات المرّات... لكنّ غالية لم تبد رغبة في الردّ.. تبدي امتعاضها وتذمّرها، ثمّ تعلّق بسخرية: ما به هذا حسين الأبله؟ ألا يعرف أنّ اليوم ذكرى الكارثة والبطولة؟ ألا يعرف أن جدّتي قُتِلت في معسكرات الموت في أوشفيتز؟
نهضت سُميّة من مقعدها، خلعت قميص الشغل الذي يحمل شعار المؤسسة ثمّ رمته صوب غالية صارخة في وجهها: ألا تعرفين أنّك تسكنين بيت جدّه الذي هُجّر منه في النكبة؟!
تركت سُميّة الوظيفة بعد اثنين وثلاثين عامًا من الخدمة!
المحامي حسن عبادي
[email protected]