لا أذكرها ذهبت يوما للصالونات كي تصبغ أو تملس شعرها كما تفعل النسوة، إنها تكتفي بعقصه إلى الخلف على شكل كعكة لتكون أرقى النساء...
ولا أذكرها وضعت على وجهها الأحمر والأخضر لتجمله، فقد حباها الله ببشرة طفل ولون زهر وشفاه من كرز...لتبدو أجمل النساء.
لا أذكرها اشترت يوما فستانا، بدلة أو أية قطعة ملابس ثمينة ... إنها تصمم، تفصل وتخيط كل ذلك بيديها العاجيتين.
أذكرها خلف وأمام ماكنة الخياطة وقد أبدعت بيديها كل ما يمكن ولا يمكن تخيله، ولا يمكن أن أعد ولا أن أحصي عدد ما أنتجته هذه الأنامل وهذه الماكنة من قطع ثياب، مفارش، ستائر، فساتين عرائس، أطقم رجالية، معاطف وحتى البيجامات ومفارش الأثاث.
أذكرها تحول ملابس والدي لملابس على مقاس إخوتي الصغار، وملابسها لملابس لي ولأختي، أذكرها تعيد تفصيل ملابس خالتي لتناسب مقاسها وتضيف لمساتها الفذة على نفس القطعة بعد حين لتبدو جديدة لا تشبه ما كانت عليه.
لا أذكرها تتبع حمية غذائية أو تحرم نفسها من فوائد الغذاء، فقد منحها الله جسدا متناسقا حافظت عليه بالرياضة والابتعاد عن كل ما هو مضر. وأذكرها دوماً مهتمة بتحضير الوجبات المتكاملة لنا جميعا ولا تزال مواظبة على ذلك اليوم مهتمة بأبي وبكل متطلباته الجسدية، النفسية، التمريضية وتحضر له أفضل الأطعمة التي يحب من مطبخها زكي الرائحة لتكون أمهر الطباخات والنساء وليكون مطبخ أمي منتجاً لأطيب الأكلات والحلويات كما المربيات والمخللات.
لا أذكر أننا خرجنا يوماً للمدرسة دون وجبة الفطور والزوادة، ولا أذكر يوما عدنا به من المدرسة إلا ووجبة الغذاء الكامل بانتظارنا رغم انشغالها الشديد بعملها وزبائنها والضيوف.
لم يمنعها مرض أو حيض من القيام بواجب أو لازم من ضمنه الابتسامة دائمة الخضرة والزهر على وجهها في كل الأوقات....لا أذكرها تشكي، تحكي ولا حتى تبكي جراء قسوة، تعب، ألم، ولا حتى فقدان عزيز أو غال— فطالما كتمت غيظها أو حزنها في قلبها مؤمنة بأن غداً أجمل من اليوم... الأمل مفتاح قلبها الذي يساعدها على بداية جديدة ملونة صبيحة كل يوم من جديد تزرعه في كل من حولها.
لا أذكرها ترد جوابا في وجه أبي أو جدتي أو أي كبير، ولا أذكرها تصرخ بوجهي وأخوتي أو بوجه أي صغير، فربتنا بعذوبة وغمرتنا بمحبة وأحاطتنا برعاية مثقفة وواعية.
بيتنا مفتوح دوما، تستقبل القريب والغريب بابتسامة وضيافة يشعر بها معها كل من دخل بيتنا بصدق مقولة " يا زائرنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل" وهي إحدى صفات والدي أيضاً الذي يشع على ضيوفه ثقافة ومعرفة.
لا أذكرها طالبت أبي يوما بمال أو رحلة أو مشوار قريب أو بعيد، فتدرك هي أنه لا يطيق السفر ولا يحتمل البعد عن عيلبون وارثاً هذه المعضلة جراء تهجير القرية في نهاية تشرين أول 1948وطالما قال:- " لا يمكنني أن أغمض عيني خارج عيلبون"... تفهمت ذلك كما لا تنجح أية امرأة بقبوله أمراً واقعاً على حساب نفسها ونفسيتها.
أذكرها كلما تنافست النسوة في الحديث أمامها عن مقتنيات أو مدخرات أو استجمام، قالت:
"ع قد فراشك مد اجريك"، فلم تغرها المظاهر يوماً ولم تعط قشور الحياة وزناً مبالغاً، فإنها ابنة عائلة جميلة القلب والقالب عاشت نعيم الأيام بحلوها ومرها، انتقلت طفلة من عيلبون الى الناصرة لتعود اليها عروساً في السابعة عشر من العمر فتبهر أهل القرية بجمال أخّاذ لا مثيل له... وعاشت مع والدي على قد الحال واضعة الأخلاق والأدب الراقي تاجاً على رأسها، لم تنجح المشكلات ولا مدبريها بتغيير قلبها أو عقلها أو تصرف من تصرفاتها، فإن رباطة جأشها، رصانة عقلها وعمق فكرها كما دماثة خلقها وطيب قلبها كانوا المنتصرين دائماً وأبداً.
كان بيتنا المضياف بيتً لأهلها واخوتها كلما زاروا القرية زائرين من الناصرة أم من بئر السبع حيث عملوا واجتهدوا واستقروا كرجال أعمال وكانوا ولا زالوا خير عون لأختهم وأولادها في مراحل الحياة المختلفة.
أذكرها تحول حجارة الطوب، ألواح الخشب وبعض الوسائد لأجمل كنبة قد تراها عيناك، مغطاة بشرشف ناصع البياض قامت بتطريز لوحاته جدتي أو خالتي أو هي بنفسها.
أذكرها أيضا تحول دوائر خشبية كانت مرقد أسلاك الهاتف والكهرباء الى طاولة جميلة ومتينة توسطت غرفة الجلوس في بيت مكون من غرفتين ومطبخ صغير يفتقد للحمام، وأذكرها في الصيف تحممنا أطفالاً بصنبور الحديقة خارجا وفي الشتاء أذكرها تنقل الدلو من مكان لمكان تلتقط به حبات المطر الهاربة من السقف لداخل البيت.
أذكرها بالعتمة والبرد حاملة أخي تهزه عساه يستكين فيسكت وينام ولو قليلا، وأذكر قنديل الكاز وقد أنهكه السهر منتظراً نوم الصغير أو الكف عن البكاء دون جدوى فيستسلم القنديل للنوم وتبقى هي مستيقظة تهز وتغني لفلذة كبدها ترتعد من البرد وتخاف صوت سقوط سيل المطر الذي امتزج لؤلؤ عينيها معه ، أما أنا فيغلبني النعاس لتبقى هي على حالها حتى ساعات متأخرة وحيدة متعبة...ولا أتذكر أبي قربها أو معها، فقد كان بكاء الأطفال يزعجه جداً فينزل ليسهر وينام عند جدتي .
جميلة الجميلات هي، خلوقة، مهذبة لا تنبس بكلمة لا تليق ولا تعاتب أو تلوم.
لا تحقد ولا تحسد ولا تغار، شعارها "القناعة كنز لا يفنى".
الشمم شيمتها، والكرامة حكايتها والعفة رفيقتها.
جاءت من المدينة للقرية في زمن كان الفرق شاسعا بل مخيفا بين الاثنتين، تركت الماء والكهرباء في البيت ووصلت حيث نشل الماء من البئر واستعمال اللوكس والقنديل والبريمو ، تركت الغسالة نص اوتوماتيك وجاءت حيث الغسيل على الحطب والكي على الفخم والخبيز في فرن القرية حطبي الوقود...كانت مضطرة لحمل صينية العجين الكبيرة على رأسها متجهة بها لفرن القرية فتجلس هناك مع النسوة الكبار ولم تلتق هناك يوما بواحدة من جيلها، وطالما استغربت ذلك وهي فتاة لم تتجاوز الثامنة عشر. تركت الشوارع المعبدة وجاءت حيث لا شوارع ولا طرق صالحة للمشي... انتقلت من حياة الدلال كفراشة لحياة القسوة والمشقة بحكم أحوال القرى في ذلك الحين. كانت نقلة بل انتقاله من عالم إلى اخر لا يشبهه ، كما لو أنه نكوص زمني رهيب. نجحت بالتأقلم مجبرة حينا ومختارة حينا، مسيّرة حينا ومخيّرة حينا، ومرت السنون والأيام ومرت الليالي ثقيلة باردة تارة وجميلة دافئة تارة لتترك في الروح قسمات لا تراها الأعين.
لطالما اعتبرت اخوة زوجها بمثابة اخوتها وتعاملت معهم كذلك، حضرت طعامهم، غسلت وكوت ملابسهم، أصغت لمشاكلهم كأخت طيبة القلب، وقد أحبوها واحترموها بنفس القدر الذي تستحق...استقبلت ضيوفهم وساعدتهم بكل ما احتاجوه، أذكرها تحضر الهدايا لزملاء وأصدقاء عمي الأصغر كلما تحضر للسفر بعد قضاء عطلة دراسة الطب في عيلبون ، وكثيرا ما اضطرها ضيق الحال للاستغناء عن قطعثمينة في البيت لهذه الغاية. ...عمي الذي ولد في لبنان بعد شهر من التهجير وقد حمله عمي الياس حال ولادته رافعاً إياه للأعلى شاكرا الله على ولادته سالماً واعداً نفسه والطفل أن يصبح طبيباً في المستقبل ... تحول هذا الطفل الذي لوّن سواد استشهاد جدي نعيم وسواد معاناة التهجير واللجوء لقرة عين أبي ونبض روحه منذ الصغر لدرجة أنه لا زال ينادي أخوتي باسمه.
كنا نفرح نحن الأطفال بالهدايا والألعاب التي كان يحضرها لنا عمي رياض من الخارج، وكأنت أهم هدية أحضرها لي ماكنة خياطة تعمل بالبطارية اهتمت أمي أن تعلمني كيفية استعمالها على أمل أن أتعلم المهنة الذهبية منها وأكمل المشوار.... أذكر جيداً كيف تحولت غرفة الصالون في بيتنا الجديد لعيادة وغرفة مكتب لعمي الدكتور بعد رجوعه بالسلامة حاملاً شهادة الطب التي كانت مثار فخر لنا جميعاً به وبإنجازه المهم كأول طبيب في القرية... أذكر مرضى يعودون عيادته /بيتنا فأصحو مع أمي تستقبلهم وتحضر لهم العصير والقهوة وتقدم أية مساعدة يطلبها عمي... كانت أياماً جميلة وليال أجمل لا تنسى.
تعبت وثابرت حتى وصلت القمة في مجال عملها وابداعها وتربعت على عرش تصميم الأزياء لتكون المصممة العربية الاولى والوحيدة لما يقارب عقدين من الزمان مع العلم أن كل إبداعاتها هي نتيجة موهبة مذهلة صقلتها بالرقي والتثقيف الذاتي والذاتي فقط دون أية مساعدة أو دعم من أحد وبعيداً عن الأكاديميات.
كانت نجمة عروض الازياء الراقية، ومصممة فساتين مسابقات ملكات الجمال، حازت تصميماتها على المراتب الأولى في المسابقات المحلية والدولية، تسابقت البرامج التلفزيونية والاذاعية على استضافتها والصحف والمجلات على نشر مقالاتها، كما تهافتت نساء العائلات الارستقراطية لتصميم الفساتين وبدلات العرائس لديها لتحظى كل منهن بما يطيب لها ويرقى لمستوى المناسبة وأكثر بكثير.
كانت تقوم بكل المهام وحدها بلا مساعد أو معين، تنهي أعمالها المنزلية على أكمل وجه ثم تنزل للطابق السفلى حيث مقرها العظيم فتجود هناك ذاتها بالإبداع وتنبت بنات أفكارها تصميمات وإبداعات لا حدود لها.... كانت المصممة، المنفذة، الخياطة، السكرتيرة كما حضرت الضيافة والقهوة بنفسها للزبونات أيضاً، فزوجها كمعظم الرجال الشرقيين في مجتمعنا العربي.. يعود من عمله كمدرس وقد حضرت هي كل مستلزماته وطعامه، فيقضي وقته في مطالعة الكتب التي يحب ويذهب لأمه التي كان يحنو عليها كثيراً كونها فقدت زوجها أحد شهداء القرية في ريعان شبابها وعانت في تربية خمسة أولاد كأرملة صغيرة. .. لم تجد أمي في غمرة عملها من يخفف عنها حتى بالرد على المكالمات الهاتفية، الوحيدة التي كانت تساعدها هي اختي وشاح 13 عاما والتي باتت تجيد القيام بكل الاعمال المنزلية وتجيد الطهو والكي وغيره، كلما رأيتها لمحت في تقاسيمها الجميلة ملامح أمنا، فالشبه بينهن كبير لدرجة ملفتة... وهكذا أبدعت تلك الصغيرة في مهامها البيتية وكانت عوناً لأمنا، لي ولبناتي كما لإخوتي وأبي طبعاً.
أما ابنتها الكبرى أي أنا، فقد تزوجت منذ سنوات قليلة وكان حظها عاثرا هي الأخرى، إذ وقع دين والد زوجها على ظهر الأخير لتضيق به الحال على زوجته وبناته، وكان الهم كبيراً بحجم مبالغ الديون الهائلة التي سقطت على رأسه ورأس زوجته فجأة ودون سابق إنذار والأقسى أن كل ذلك انكشف له بعد وفاة والده السريع إثر مرض عضال...فمال المركب وأوشك أن يغرقه وعائلته الصغيرة ولم يجد من يمد له يد العون، المعونة، الارشاد ولا حتى الاحتواء رغم أنه ليس وحيد والديه. فما كان منها الا أن عاهدت نفسها كلاماً وابنتها فعلاً أن تتكفل بكل احتياجات ابنتها وعائلتها من مدخول الخياطة والتصميم، وكانت أمي العظيمة على قدر المسئولية وعلى قدر العهد والوعد، وطبعاً كان ولا زال بيت والدي وجيبه كما فكره وقلبه مفتوحين لي ولعائلتي وهو نهج اتبعه إخوتي أيضاً الذين تحملوا عبء دين لا ناقة لهم فيه ولا جمل مخففين فوق استطاعتهم عن زوج أختهم وعائلته الصغيرة.... وقد أصبحوا له أخوة لم تلدهم أمه بكل ما تحويه كلمة أخوة من معان.
مرت السنون وكبر الأولاد والبنات وكبر الأحفاد وزادت المسئوليات وكثرت أوجاع الحياة كما أوجاع الجسد والروح لكنها ما زالت على ما عاهدت الدنيا عليه من محبة وأمل، من فرح وشكر لله على كل شيء، من مقدرة على التحدي والتصدي، اختيار الاستمرار نحو مستقبل أفضل وابداع أجمل.
إنها أمي العظيمة التي أتمنى لها في ذكرى ميلادها كل خير الدنيا وبهجتها، كل الفرح والاطمئنان، انها أمي التي أشكرها كل يوم على ما منحتنا اياه من جمال ومحبة، أمي التي أتمنى أن نبقى جميعا بخير خجلاً من دمعها ولؤلؤ عينيها.
[email protected]