اختفاء المستوطنين الثلاثة الذي يحتل العناوين والاهتمامات، حول كل القضايا الساخنة إلى هامش الأحداث. إذا صحت فرضية الاختطاف (أقول فرضية إذ إنه حتى لحظة كتابة هذه المقالة لم يرشح أي معلومة تفيد على وجه اليقين بأن الأمر يدور حول عملية اختطاف مدبرة)، فإن الأمر يبدو بالنسبة لنتنياهو بمثابة نقطة التحول لفرض قواعد جديدة للعبة العلاقة مع السلطة الفلسطينية والفلسطينيين عموما. بهذا المعنى فإن حادثة الاختطاف المفترضة قد سلطت الأضواء أكثر على حكومة التوافق الفلسطينية، ووضعتها تحت الضغط المباشر والتهديد الموتور لحكومة نتنياهو. المؤتمر الصحفي لرئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعه ورئيس هيئة أركان الجيش بعث برسالة صريحة إلى كل من يهمه الأمر بأن إسرائيل لا تعتبر حكومة التوافق خيارا مناقضا لعملية التفاوض والتوصل لتسوية فحسب، بل إنها خيار يعني تغيير أسس التعامل مع السلطة الفلسطينية.
هي ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الحكومات الاسرائيلية إلى تحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية عمليات مقاومة مسلحة ضد مستوطنيها أو قواتها في المناطق المحتلة. إلا أن هذه المرة تختلف من ناحيتين: الأولى هي أنه لا توجد وقائع موضوعية تبرر هذا المنحى، والثانية هي أن إسرائيل لا تسعى هذه المرة فحسب لاستغلال الحدث تفاوضيا، بل أيضا لتغيير قواعد اللعبة برمتها. فلنناقش كل ناحية بالتفصيل، وبالتركيز على المؤتمر الصحفي المذكور.
الأولى: لا تتوفر حتى الان أية معلومات لدى أجهزة الأمن الاسرائيلي تؤكد بأن الأمر يدور حول عملة اختطاف، ناهيك عن مسؤولية أي تنظيم فلسطيني عنها. إن المتتبع لوسائل الإعلام الاسرائيلية يلمس غياب أية معلومات تفيد في إيجاد طرف خيط يقود لمعلومات عن الواقعة. إن الحملة الواسعة للجيش وأجهزة الأمن الاسرائيلية في منطقة الخليل تحديدا هي، برأي معظم المحللين والخبراء الاسرائيليين، محاولة للإمساك بطرف خيط. بالرغم من ذلك يلقي نتنياهو بالمسؤولية على كاهل الرئيس الفلسطيني أبو مازن. "نحن نرى بأبو مازن والسلطة الفلسيطينية مسؤولين عن كل مهاجمة لمواطنينا في يهودا والسامر (الضفة الغربية) وكذلك من قطاع غزة". هذه عبارات نتنياهو في مؤتمره الصحفي المشار إليه. لم يحدد نتنياهو طبيعة هذه المسؤولية لسلطة يعرف نتنياهو جيدا أنه ليس لها أية قدرة على العمل في مناطق واسعة من الضفة الغربية، ناهيك عن التزامها الثابت بالتنسيق الأمني مع إسرائيل. الأبرز هو تحميل أبو مازن المسؤولية حتى عن العمليات من قطاع غزة. وكأن لسان حاله يقول: ما دمت قد شكلت حكومة مع حماس فلتتحمل أيضا مسؤولية كبح المقاومة من غزة! لقد سبق هذا التصريح مطالبة إسرائيلية متكررة من أبو مازن وعلى لسان وزير الحرب الاسرائيلي بتجريد حركة حماس فس غزة من أسلحتها، وهو ما يندرج في إطار تصعيد الموقف مع السلطة الفلسطينية على خلفية تشكيل حكومة الوفاق الفلسطينية.
تسعى الحكومة الاسرائيلية لوضع أبو مازن أمام خياريين غاية في الصعوبة: التخلي عن التوافق مع حركة حماس، أو الدخول معها في مواجهة عنيفة في قطاع غزة ليس لأبي مازن قبلا بها. يبدو بأن الأمر له صلة أكثر بعملية إخضاع (إن لم نقل إذلال) محمود عباس سياسيا لإرادة إسرائيل، وما دون ذلك محاربة السلطة بشكل مكشوف وشامل. وهذا ما ينقلنا للنقطة الثانية.
الثانية: إن نشر أكثر من 2000 جندي وعنصر أمن إسرائيلي في جنوب الضفة الغربية منذ يوم أمس لهو تهديد صريح بأن الحكومة الاسرائيلية بصدد عمل "جراحي" مؤلم للسلطة الفلسطينية وللفلسطينيين عموما، ليس فحسب كعقاب على تشكيل حكومة التوافق، بل أكثر من ذلك لإخضاع الفلسطينيين سياسيا، وربما فرض أمر واقع جديد على الأرض يتحول إلى نقطة التفاوض الجديدة في حال استئناف المفاوضات. لم تلجأ الحكومة الاسرائيلية كعادتها إلى إجراءات "عقابية" من قبيل حجب أموال مقاصة الجمارك الفلسطينية، بل إلى إجراءات أكثر جذرية. ينبغي ملاحظة أن الحكومة الاسرائيلية قد ردت بشكل فوري على تشكيل حكومة التوافق الفلسطينية بالإعلان عن مشاريع بناء لالاف الوحدات الاستيطانية في رسالة قاطعة بأن الحكومة الاسرائيلية ماضية في سياساتها التوسعية الساعية لحسم المفاوضات بقوة الأمر الواقع. وشنت حملة دبلوماسية على نطاق واسع لمنع الاعتراف الدولي بهذه الحكومة. فشلت حكومة نتنياهو في ثني الإدارة الأمريكية عن التعامل مع الحكومة الفلسطينية فلجأت إلى أنصارها في الكونغرس حيث وجه أكثر من ثمانين من هؤلاء برسالة للرئيس الأمريكي مطالبين بمنع المعونات عن السلطة الفلسطينية. هكذا يبدو من الواضح بأن نتنياهو مصمم على نزع الشرعية عن هذه الحكومة، أو على الأقل إخضاعها وإخضاع أبو مازن سياسيا.
أتت واقعة الاختطاف المفترض لتدفع بالرياح إلى طواحين السياسة الاسرائيلية المعادية لأي توافق فلسطيني مهما كانت طبيعته، وبغض النظر عن تقييمنا لعمقه وجدواه. لم يعد نتنياهو فقط يضع أبو مازن أمام اختيار التفاوض أو اختيار حماس، فالتوافق مع حماس لم يعد فحسب موضوع علاقات فلسطينية-إسرائيلية، بل مسألة إقليمية. يقول نتنياهو في مؤتمره الصحفي: "هذه الحادثة تؤكد أن الاتحاد مع حماس، وبقية المنظمات الأرهابية، تؤدي إلى عكس ما نصبو إليه من سلام. " ويضيف: "التنظيمات الإسلامية الأرهابية تقوم بقتل في الدول المجاورة، وفقط من خلال الاعتماد على أجهزة الأمن الإسرائيلية، وعلى وحدة الشعب - نستطيع أن نصد هؤلاء". وفق هذه المعادلة يضع نتنياهو أبو مازن وحكومته والفلسطينيين في حلف داعش، ولا يترك خيارا لهم سوى أن يقرروا هل هم مع نتنياهو أم ضده في حربه ضد الإرهاب الذي يعم المنطقة ويطال مستوطني إسرائيل!!! وكأننا نستمع من جديد لجورج بوش الابن وهو يضع العالم أجمع أمام أحد خيارين: أما مع الولايات المتحدة أوضدها. كان لجورج بوش 11 سبتمبر الخاص به، فهل تكون عملية الاختطاف المفترض هي 11 سبتمبر نتنياهو؟
المصدر://www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=704965
[email protected]