هل علينا العام الجديد مع نبأ مقتل ليان ناصر من الطيرة في التفجير الّذي نفّذه داعش في اسطنبول. هذه الفتاة الرائعة بجمالها، تبدو كملاك طاهر ولطيف يحلّق فوق رؤوسنا في هذه الأيّام الشتوية. نبأ وجود جرحى من العرب في العملية التفجيرية جاء بسرعة كبيرة. وقد تشارك أناس بالصلوات من أجل سلامة السيّاح هناك، إلى أن تبيّن أنّه يوجد جرحى من البلاد، وبعد ذلك تبيّن أنّ ليان قد فارقت الحياة، في ليلة رأس السنة السوداء. وهنا بدأت الاحتفالات الحقيقية في المجتمع العربي، عندما بدأ ناشطو الشبكات الاجتماعية بنشر صورها ونشر مشاركات حزينة حول موتها.
كان مجرّد مسألة وقت، خفتُ وانتظرتُ المنشور الأوّل الّذي سيقول "ماذا تفعل صبية عربية في نادٍ في اسطنبول؟" ولكنّ المستوى انخفض أكثر من ذلك- " تستحق الصبايا كلّ ذلك، نساء مسلمات في ملهى ليليّ" وأيضًا "لقد احتفلنَ بالسلفستر، وهذا عيد مسيحيّ، ليس من عاداتنا ولا من ثقافتنا". ملاحظات تنهش بلحم الحيّ ولحم الميّت، في الوقت الّذي يبكي فيه والد ليان أمام شاشة التلفزيون على خلفيات الصراخ المؤلم لنساء العائلة. تحدّث الوالد عن الصور الّتي أرسلتها ليان من الفندق لعائلتها، وقال: كم كانت لطيفة وقد أصرّت صديقاتها أن يحتفلنَ سويًا، وكم كانت متأثرة من رحلتها الأولى إلى خارج البلاد.
الإجابة على التلميحات أنّ تصرّف ليان هو الّذي جلب الكارثة- كان فوريًا. لقد تفجّر الفيس بوك واهتز بفضل العديد من المشاركين الّذين أقفلوا أفواه المحرّضين والعابثين، دافعوا عنها وانتقدوا كل من يرشّ الملح على الجرح. قسم من المُدافعين تحدّثوا عن الإرهاب الّذي لا يفرّق بين دم ودم، من اليمين ومن اليسار هاجموا "قوى الشرّ في المجتمع العربي". وحتّى أنّه كان هناك من كتب "يجب اقتلاع براعم داعش في صفوف الفلسطينيين من الجذور".
إضافة، إلى الادّعاء مع تلميح جندري، ماذا تفعل شابة في منتصف الليل في اسطنبول لوحدها في نادٍ مشبوه؟ مع أن النادي الكبير المشهور ليس ناديًا مخلًا طبعًا، ولكن من كتب ذلك يعرف حساسية المجتمع العربي لمسألة "الشرف". شابة عربية، جميله، في منتصف ليلة رأس السنة في خارج البلاد- هذه تركيبة جيدة للعبث بمشاعر الرجال العرب، وعلى الفور خرج الدماغ الذكوري القذر الشكّاك والمحافظ إلى العمل....
كتبتُ انا عن حقّ النساء في الحياة، الاحتفال، الرقص، النزهات وكذلك في السفر والفرح.
أعلنتُ بشكل تظاهري كفى! أنتم هناك في العالم عليكم أن تتقبلوا حقيقة أنّ للنساء حياة ونحن مصرات أن نعيش هذه الحياة، وفي الطريقة الّتي نختارها. وتساءلت عن الرجال العرب الّذين يرتادون الملاهي الليلية في تل أبيب في ليلة رأس السنة، ولم يقم أحد من رجال الدين أو الدعاء بفعل شيء في الموضوع. تخيّلتُ عملية تفجيرية في ملهى في ريشون لتسيون (لا قدّر الله) يكون فيها نصف الضحايا من العرب، ماذا سيفعل المتلونون من أبناء شعبي عندها؟-ستخرج عندها جنازات من أم الفحم، الطيرة ورهط وكنتم ستشيدون بالعمل البطولي للشهداء الّذين قضَوْا قبل أوانهم على يد إرهابيّ حقير، صحيح؟
انفعلت من ناشطة أخرى كتبت عن عملها مع طالبي اللجوء من السودان. عن مرافقتها لهم مع موظفي مصلحة السجون والسفر الخطير مع رجال في الليل، وتساءلت ماذا سيقولون في المجتمع العربي إذا لقيت مصرعها في حادث طرق مع رجال في وسط الصحراء؟
وأخرى كتبت وصية مستقبلية، تصف فيها هوايتها المفضّلة المتمثّلة بسياقة سريعة في شوارع خالية بسيّارة سريعة- "لوحدي في الشوارع من الليل حتّى الصباح... هكذا أهدأ وهكذا أكون سعيدة. اعلموا يا أبناء شعبي، هكذا أريد أن أحيا وهكذا على ما يبدو سوف أموت. فقط لا تتحدّثوا عني بسوء بعد موتي فلم أؤذي أحدا ولم أخطئ ، لقد حذّرتكم".
وقد خصّص أحد الآباء خطابًا مؤثّرًا ابنته: ابنتي الغالية، لقد حضرتِ إلى العالم لإزالة الظلمة، وكبرتِ لتكوني امرأة حرّة. أنا أريدكِ أن تعيشي الحياة وتقومي بكلّ ما يجعلكِ سعيدة، ارقصي، سافري واقضي أوقاتًا سعيدة. ولدتِ حرةً و ستعيشين حرّة. والدكِ يحبّكِ كثيرًا.
كما في السعودية: حادث طرق كشف حقيقة أنّ النساء يقدنَ السيّارات على الرغم من المنع.
كتب احد الشباب منشورا ساخراً وجميلاً وموجعاً- "مرشد للصبية العربية قبل الموت: عزيزتي الصبية العربية، عليكِ أن تفكري جيدًا كيف ستنهين حياتك، أين، مع من ستكونين، وفي أيّ ساعة. ممنوع عليكِ أن تُقتَلي، ممنوع عليكِ القيام بحادث طرق مشكوك فيه وممنوع عليك الانتحار، لأنّه عندها سنقول إنّك مررتِ بأمر ما خطير وأنّه كان عليكِ أن تتستّري على العار. فكّري جيدًا بكلّ خطوة تقومين بها ومن الأفضل أن لا تقومي بشيء وعندها نقول إنّك "بلهاء تافهة".
ذكّرني هذا بالمرأة الأولى الّتي قتلت في حادث طرق عندما قادت سيّارة في السعودية. في السعودية تُمنع النساء من القيادة، إذن كيف قُتلت المرأة؟ فمن جهة، الجميع يعلم أنّ النساء يخالفن هذا القانون كلّ الوقت، ومن جهة أخرى فالجميع تجاهل أنّ للنساء حياة موازية. لقد كشف هذا الحادث المستور وتسبّب ببلبلة لدى الجميع: من الآن يجب مواجهة حقيقة أنّ النساء يقدن السيّارات، يخالفنَ القانون وحتّى أنّهن يُقتلن في حوادث الطرق كالرجال. الحلّ السعودي، للأسف، كان عن طريق التشديد على المراقبة أكثر بدلًا من السماح، وفقط بعد سنتين تمّت المصادقة على قانون يسمح للنساء القيادة في أماكن معيّنة.
الوضع هنا لا يختلف كثيرًا من الناحية النظرية، هذا على الرغم من أنّنا بعيدون عن السعودية، والمجتمع العربي يعلم ويقبل غالبًا بحقيقة وجود حياة خاصة بنا نحن النساء، وأنّنا نقوم بأمور كثيرة لا نصرّح عنها دائمًا في العلن مثل الرجال. قد نكون أكثر تحفظاً وكتماناً ولكنّنا بالطبع نقوم بترهات مثل الحفلات، النزهات، ارتياد دور السينما، العروض الموسيقية، الرقص الشرقي. هناك نساء يقمن بالتدخين سرًا، وهناك من يقمن بصبغ شعرهن باللون الزهري مع خطوط بنفسجية تحت الحجاب، انها تلك الأمور الحياتية البسيطة التي تعطي لحياة الانسان طعماً مختلفاً.
قالت لي إحداهن أنّها تتعلّم العزف على الطبلة دون علم أحد. "كيف لن يسمعوا؟" سألتها، أجابت: "سوف يستمعون عندما أكون جاهزة لذلك، حاليا انا سعيدة". إجابة جيّدة ومُقنعة. أجبتها: "تابعي، وأنا سوف أبحث لكِ عن الراقصة المُلائمة للعرض".
بعد أن صمّمتُ أنا والكثيرون بنصب مرآة مقابل الجانب البشع للمجتمع العربيّ، انتبهتُ لنشوء موجة هائلة من الدعوات، الردود، المُشارَكات وتأييد لِما كُتب، ورغبة في الحرية والتبرؤ من محاولة اتّهام البنت القتيلة بموتها. كنت راضية جدًا من عدد الأشخاص المهمّين، وأصحاب الرأي، السياسيين، المحاضرين، رجال المُجتمع، الكُتّاب والنسويات من "جيش قوى النور" كما أطلقت عليهم، الّذين كتبوا على خلفية صورة ليان ضدّ التطرّف، التخوين والتخلّف، وضدّ الإرهاب الداعشي، القمع الفكري الذكوري وغيرها. قضيت يومًا كاملًا في قراءة الردود على هذه الحادثة المؤلمة، والحزن الحسّاس على أنّها كشفت التيارات في المجتمع العربي.
إنّ جبروت ووحشية حادث القتل مع الجمال المُدهش لليان ابنة التاسعة عشرة ضربانا بقوة، شيء ما استيقظ فينا ويخيفنا انزلاق القاعدة الأخلاقية الّتي تؤلف بيننا كمجتمع، وأنا راضية أنّنا بدأنا نتحدّث عن ذلك. يبدو لي أنّنا انتصرنا في معركتنا الحالية كما كتبت لي إحدى الصديقات- المعركة الحقيقية صد أصول الشرّ، الّتي تعيدنا إلى أيّام الظلام لا تزال أمامنا. في الحياة الحقيقية وليس في الحياة الافتراضية
لدينا عمل صعب جدًا.
خرجت جنازة ليان في مدينة الطيرة. بعد عاصفة إدراكية توعوية الّتي مررنا بها، حضر الجنازة آلاف الأشخاص لتشييعها إلى مثواها الأخير. الله يرحمها ويحرر أرواحنا.
العاملة الاجتماعية: سماح سلايمة
[email protected]