من خلال زياراتي ولقاءاتي ومحادثاتي العديدة والمتعددة مع الناس على مدار أشهر فاتت، وجدت أن الخلافات العائلية، أي التي تقع داخل العائلة الواحدة تنخر في جسد العائلات، وتكاد تكون كالطاعون أو كالمرض الخبيث، الذي نتجنب ذكر اسمه ويفتك بالبشر في السنوات الأخيرة، وهكذا تحولت الخصومات العائلية الى مرض خبيث يفتك بوحدة العائلة وتماسكها وتعاضدها.
واذا ما نظرنا بعمق الى تلك الخلافات والخصومات التي تصل في كثير من الأحيان الى عداوات –للأسف- نرى أنها تنبع من مصدر واحد وهو الحسد وما يلحق به، وقد أشار النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، الى ذلك بقوله: " ثلاثة لا ينجو منها أحد وقلّ من ينجو منها، الظن والغيرة والحسد". كما أشار القديس يعقوب في احدى رسائله، الى هذه الآفة حين قال: " حيثما يكن الحسد والمنازعة، يكن الاضطراب ومختلف أعمال السوء".
والحسد ينتج عن الغيرة التي تعمي البصر والبصيرة، وعندما يستسلم الانسان لأهوائه الشريرة ويبطل العقل من سلوكه لا بد أن تقع المشاكل والخصومات وفي هذا أشار أيضا القديس يعقوب " من أين تأتي الحروب والمخاصمات بينكم؟ أما تأتي من أهوائكم التي تعترك في أعضائكم؟" (م.س 4:3)
والحسد آفة اجتماعية خطيرة حذرنا منها الرسول العربي، صلى الله عليه وسلم، حين قال : " إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". أليس هذا ما يفعله الحسد في نفوس حامليه؟ أليس الحسد مصدر كثير من الشرور والعداوات؟
فالحسد كما هو معروف باب من أبواب الوقوع في القبائح والجرائم وفي الكثير من الشرور، وهناك العديد من القصص التاريخية التي تظهر لنا في النهاية كيف أن الحاسد يضر نفسه أو يسيء لنفسه، والحسد يسبب التعب والقلق لحامله وفي هذا قال الامام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، " الحسد مطيّة التعب".
والحسد ينبع أيضا من الحقد وهذا ما يؤكده لنا المعلم والفيلسوف الغزالي بقوله: " ان الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، فهو فرعه والغضب أصل أصله". ولما كان الحسد يؤدي الى الغضب، فانه بالتالي يؤدي الى العدوان جورا وظلما على من يغضب منه الحاسد، فكم من حادث قتل فردي، أو حوادث اعتداء جماعية حصلت ووقعت نتيجة الحسد والغيرة والشك.
وللأسف فان معظم الناس، وخاصة الذين ابتلوا بتلك الآفات الأخلاقية والاجتماعية، ارتكبوا الشرور وأدوا الى الخصومات والكراهية بين الجيران والأصدقاء والأقارب بل الأخوة، وقد حذرنا القرآن الكريم أنه اذا جاءنا فاسق بنبأ علينا أن نتبينه لئلا نظلم أحدا، لكن للأسف ليس هناك من يفطن لهذا الكلام الحكيم الا قلة قليلة في مجتمعنا، لهذا ليس غريبا أن نجد العنف والعدوان والقتل يعم مجتمعنا الذي ملأت قلوب أبنائه الحسد والغيرة والأنانية.
واذا ما أخطأ أحد بحقنا، هل نسامحه؟ هل نعذره ونغفر له خطأه؟ ليسأل كل منا نفسه هذه الأسئلة بصدق واستقامة وعندها يعرف مصدر الشرور. وهناك من يعز عليه أن يسامح صديقه أو أخاه، ويرى في ذلك تنازلا وهدرا لكرامته الشخصية، لأن المسامحة تتطلب تضحية وتعاليا وسموا ليس بمقدور أي شخص ان يقوم بها، وعندما سئل السيد المسيح، له المجد، كم مرة يجب أن أسامح أخي أجاب: " سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات". وقد دعا "القرآن الكريم" الى التسامي والتسامح فيما بيننا والعفو عن المسيء كما جاء في الآية " وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحبّ الظالمين".
كيف لنا اذن أن نعيش بسكينة وراحة بال وهدوء، كي ندرك السعادة التي ننشدها؟ ليس أبسط من ذلك اذا كنا صادقين مع أنفسنا، وعملنا بموجب ما يقوله قداسة البابا فرنسيس في هذا الصدد: " كم يبدو لنا صعبا أن نغفر أحيانا! ومع ذلك فالمغفرة هي الأداة التي وضعت بين يدينا الضعيفتين لنبلغ الى سكينة القلب. ان ترك الحقد والغضب والعنف والانتقام هي الشروط الضرورية لنعيش سعداء".
[email protected]