لن أُضرب يوم الثلاثين من آذار – يوم الأرض. ولن أدعو ولن أتجنّد لإنجاح الإضراب. بل ها أنا أدعو شعبنا إلى عدم تلبية توصية لجنة رؤساء السلطات المحلية وقرار لجنة المتابعة للجماهير العربية بهذا الخصوص. علماً بأنه ما مِن حاجة لدعوة شعبنا لهذا، لأنه أصلاً "الشعب قرر عدم الإضراب". هذا ما أثبته عزوفه عنه في السنوات العديدة الماضية. لكن "القيادة" تضع في أذن طينة وفي الأخرى عجينة وتعود وتقرر الدعوة للإضراب.
أقدّر إعلان محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة، تحفظه من الإضراب. قد أفهم هذا "التحفظ" الذي هو نصف حَبَل. إذ يصعبعلى مَنْ هو في مركزه أن يقاتل ضد قرار اللجنة التي يرأسها. لكن لا أفهم ولا أتفهم إحجام الحزب الشيوعي والجبهة، وغيرهما من أطر سياسية وأهليّة مسؤولة وحكيمة، عن العمل وإصدار البيانات والضغط للإقناع بعدم جدوى إعلان الإضراب.
أقول هذا ليس من باب رفضي لسلاح الإضراب عموماً، وإنما من باب التبجيل لهذه الأداة الكفاحية التي سخّفناها و"جلجقناها وبهدلناها" من كثرة ما لجأنا إليها إعلاناً شفوياً، رغم علمنا المسبق بأنها لن تتحقق فعلاً تطبيقياً.
حتى لا تصبح الطليعة ذنباً
واجب الأحزاب والأطر الثورية والتقدمية الحكيمة أن تكون هي الطليعة، وأن يجلجل صوتها وأن ترتقي بمواقف شعبها نحو القول والفعل الحق. لا أن تكون ذنباً مجروراً وصامتاً وراء الموقف الخاطىء حتى لو دعت إليه وتبنته الأغلبية. فالغالبية ليست معياراً للحقيقة. وعندما تتبع "الطليعة" الغالبية الخاطئة بحجة "الوحدة"، تكون قد استحالت إلى ذنب وإلى أعمى وأخرس وأبكم عن سماع ورؤية الحق والنطق به. تبّاً لوحدة تقوم على الخطأ، وأهلاً "بشرذمة" تنتصر للحقيقة.
لقد عوّدنا الحزب الشيوعي وغيره منذ ما قبل سنة 1948، وخلالها وبعدها، أن ينطق بالحقيقة حتى عندما كانت غالبية الشعب الساحقة تتبع الخطأ. وكان هذا أحد الاسباب الأساسية التي جعلته يحظى باحترام وبثقة شعبنا فيما بعد. فما باله اليوم أصبح يؤثر وحدة قلّة القيادة الخاطئة، بدلاً من تلبية نداء الموقف الجماهيري لغالبية الشعب التي قررت عدم الإضراب؟
تسألون: من أين لي المعرفة بأن هذا هو رأي الغالبية الجماهيرية؟ أجيبُ: من خبرة وتجربة الإضرابات العديدة الفاشلة في السنوات السابقة. لكن، كما يظهر، التكرار أصبح لا يعلّم "الشطّار" من بعِض قادة ممثلي الأحزاب من كبار وصغار.
لن يضرب شعبنا
أكتب هذه الكلمات قبل أسبوع من يوم الإضرب المعلن. إليكم ما سيحدث: لن يضرب العمال والموظفون العرب بغالبيتهم الساحقة جداً جداً عن الذهاب إلى العمل في جميع مؤسسات ودوائر ومرافق ومكاتب ومصانع ومزارع ومشاغل البلاد اليهودية العامة والخاصة، الإدارية والإنتاجية والتجارية والخدماتية والصحيّة والتعليمية. أي لن يصل صوت "إضرابنا" للوسط اليهودي ولن يهّز مرافق الدولة.
أما في بلداتنا العربية فغالبية عمالنا وموظفونا يعملون في الوسط اليهودي، وهم لن يضربوا. لذلك لن تعيش بيوتهم / عائلاتهم / تجربة الإضراب. و"المضربون" بالإجماع منّا وفي بلداتنا فسيكونون المسنين المتقاعدين أو العاطلين عن العمل أو ربات بيوت.
أما أصحاب المتاجر والمصالح الخاصة والمشاغل العربية، وغالبيتها صغيرة وبالكاد تعيل عائلة مالكها، فلقد أتقن أصحابها "لعبة" الإضراب. سيغلقون أبواب مرافقهم من باب الخجل (نصف او ربع إغلاق) وسيجلسون داخلها متربصين عبور ساعة او ساعتي "إضراب كفاحي" في الصباح الباكر... ثم يفتحونها. ويا دار ما دخلك شر. وسيعاتبوننا في اليوم التالي: متى تكفون عن المس بمعيشتنا وإعالتنا؟ أضف الى هذا ان العديد من بلداتنا الصغيرة لن تسمع أصلاً بالإضراب ولن تضرب حتى لو سمعت.
والمدارس؟ هذا يوم فرصة / عطلة محبّب لعموم التلاميذ ولغالبية المدرسين. يوم راحة أو نوم أو شطحات عائلية على شواطىء وفي حدائق البلدات اليهودية. سيكون الإضراب في المدارس عاماً ومطلقاً وبنسبة مائة بالمائة - هذا ما ستكتبه بعض صحفنا في اليوم التالي. (سنخسر هذه السنة حتى إمكانية هذا التفاخر الكاذب، لأن المدارس ستكون مغلقة بسبب فرصة الربيع – الأعياد).
سيقصفني بعض المزاودين بوابل من طلقات الإتهام على ما ورد أعلاه (رغم اعترافهم بحقيقته)، وذلك من باب ان واجب الأحزاب تصعيد كفاحية شعبها. وأن هنالك من الظلومات والإجراءات ما يستدعي إعلان الإضراب. وهي مثلاً، موبقات الإحتلال، وانفلات العنصرية، والتضييق على أحزابنا والهجمة على الديمقراطية ومخططات المصادرة للأرض والإستيلاء على أملاك اللاجئين، وعلى أراضي النقب وقراه و... و...
أقول لكم: ما من اعتراض على مسببات الإضراب. لكن إذا كانت أسباب الإضراب هي العامل الأساسي والوحيد الذي يستدعي وجوب إعلانه وضمان نجاحه، إذاً دعونا نضرب 365 يوماً في السنة. لأن تلك المسببات قائمة ومتواجدة يومياً وعلى مدار كل أيام السنة. بل ومنذ النكبة قبل 67 عاماً وعلى مدى الأعوام.
الاعتراض هو على إعلان إضراب نعرف مسبقاً أن الشارع غير جاهز أو ساخن بما فيه الكفاية له. وغير مستعد له ولا الأحزاب قادرة في ظل الواقع المُعطى على رفع استعداده وكفاحيته لجعله إضراباً عاماً وشاملاً وكفاحياً ومؤثراً. أتريدون مجرد "إعلان الاضراب"... أم ضمان الإضراب فعلاً؟! تريدوننا أن نضرب حقاً ونجعل الأرض تزلزل زلزالها... أم تريدوننا ان "نلعب إضراب"؟!
لماذا يُضرب شعبنا عن الإضراب؟
أثبت شعبنا في دولة يهودها أنه قادر على الإضراب العام وعلى التحدي والتصدي الكفاحي وعلى الاستعداد لدفع الثمن – من فصل عن العمل واعتقالات وتحقيقات وملاحقات، وحتى على الصدام العنيف مع قوات الامن ودفع ثمنه من جرحى وشهداء.
لكن شعبنا لن يتجاوب مع قرار بالإضراب يأتي نتاجاً لتنافس فئوي ولمزاودات وتخجيلات بين قيادات مختلفة اتخذته، وإن لم يكن تتويجاً لنشاطات نضالية تعبوية تسبقه وتعدّ له، وتقود إلى التعبئة العامة والقناعة والهيمنة النفسية والمعنويّة والثقافية بلزومه.
أضف إلى هذا وجوب إقتناع الناس أن إضرابهم سيؤدي إلى تحقيق مكاسب لهم أضربوا لتحقيقها، وأوّلها وضع قضيتهم على الأجندة العامة للدولة. واختراق الرأي العام بعدالة قضيتهم، ومن ثمّ استلال الإنجازات لصالحهم من بين أنياب سياسة التمييز القومي والمدني والعنصرية.
وكنتُ قبل سنوات، بعد إضراب "عام" فاشل، قد كتبتُ مقالاً بعنوان "لماذا أضرب شعبنا عن الإضراب؟"، قمتُ فيه بدعوة القيادات لأن تكف عن إعلان إضرابات بالونية هوائية تكون أبرز "إنجازاتها" هي المس بقدسية فكرة وفعل الإضرب وبالثقة والإحترام للقيادة نفسها.
الإضراب ليس طقساً اجتماعياً أو دينياً تفرضه تواريخ "الرزنامة" السنوية. هو ليس عيد الاضحى ولا عيد الفصح ولا عيد راس السنة. وانما هو فعل سياسي نضالي وجماهيري تقرره زمكانيّة الظروف القائمة المعطاة، واستعداد الناس له وقناعتهم بوجوبه. والقيادة الحقة هي ليست تلك التي تعلنه كلما خطر على بالها. وإنما هي تلك التي تقرأ الخارطة الموضوعيّة على حقيقتها، وتشمّ الأجواء، وتمسك بتلاليب الفرصة القائمة وتصعّدها... فيحدث الإنفجار وتزلزل الأرض زلزالها بفعل شعب قرر ألاّ يسكت على الضيم بعد.
كنتُ أتمنى ... واحلم
تحلّ في الثلاثين من آذار هذه السنة الذكرى السنوية الأربعين لإضراب يوم الأرض عام 1976. نحيي رؤوسنا إجلالاً، أولاً، لذكرى الشهداء الستة: رجا ابو ريّا وخضر خلايله وخديجه شواهنه وخير ياسين ومحسن طه ورأفت زهيري. ونعلن، ثانياً، تقديرنا واحترامنا للقيادة السياسية والحزبية الحكيمة التي اتخذت قرار الإضراب يومها، ولكوادرها الميدانية التي ضمنت نجاحه بنشاطها الدؤوب.
كنتُ أتمنى أن نحيي هذه السنة الذكرى الأربعين ليوم الأرض بنشاطات جماهيرية متشعبة على مدى طوال شهر آذار، قطرية مركزية وأخرى محليّة في كل بلداتنا وأطرنا ومؤسساتنا ومدارسنا نوادينا ومرافقنا. نشاطات تخصّ الأرض والمسكن والحقوق الجماعية القومية والمدنيّة للعرب في البلاد. نشاطات سياسية وثقافية وإجتماعية ودراسية وأكاديمية وفنيّه وإعلامية وتنظيمية، وأخرى لكيفية مخاطبة الشارع اليهودي وكيفيّة مواجهة السياسية العنصرية للحكومة. وان نختتم هذه النشاطات بمسيرة شعبية وتمثيلية جماهيرية بمشاركة القوى الديمقراطية اليهودية، وشخصيات من دول العالم.
مسيرة تخترق البلدات اليهودية وصولاً إلى مباني الحكومة والبرلمان ورئاسة الدولة في القدس، وهي تحمل بحراً من الشعارات بشتى اللغات وذات نصٍ واحد وحيد:"الشعب قرّر المساواة ولا أقل منها". وتقوم وفود من المسيرة بدخول مختلف مؤسسات الدولة والسفارات الأجنبية كلها لتقديم "مونيفيست – بيان برنامجي" عن معاناتنا ومطالبنا. مونيفيست نحرص على إيصاله أيضا إلى الأمم المتحدة ولعموم المنظمات والجمعيات العالمية التي تُعنى بحقوق الإنسان ومكافحة التمييز العنصري. للأسف تمخّض هذا التمني – الحلم عن "مسخ" إعلان إضراب باسم شعب قرر أن يُضرب عن الإضراب.
وذكِّر إن نفعت الذكرى
سأحيي الذكرى الاربعين للإضراب، معكم أيها القراء على طريقتي. تعالوا نتذكر مستعرضين ما سبق يوم الأرض 30 آذار 1976 من وقائع واستعدادات ونشاطات تعبوية. شهدت بدايات سبعينيات القرن الماضي هجمة عنصرية متجددة لإستكمال مصادرة الأرض العربية وتهويد البلاد، وللحد من النمو المطّرد لإستعداد الجماهير الفلسطينية من مواطني اسرائيل على التحدي والتصدي للسياسة العنصرية. وهذا أتى على خلفية التزايد الكمي العددي للمواطنين العرب، والتحوّل الفكري والثقافي والكيفي وكذلك التنظيمي لشتى فئاتهم، بمن فيهم الاكاديميون والطلاب أيضاً. وكان الحزب الشيوعي وصحافته هو القائد السياسي والفكري والموجّه والمنظم الأساسي، دون التقليل أبداً من دور الوطنيين المستقلين والفئات الأخرى.
انعقد مؤتمر شعبي للدفاع عن الأراضي بتاريخ 18/10/1975، أي قبل خمسة شهور ونيّف من يوم الأرض. حرص الحزب على أن يكون حضور ذاك المؤتمر من شتى الأطر والقوى المستقلة والشعبية التمثيلية بمن فيها التقليدية. وبدأ الاعداد التنظيمي والتعبوي بالنشاط الميداني والاعلامي لجعل قضية الأرض هي الأجندة. ثم قام الحزب بتشكيل لجنة قطرية الدفاع عن الأراضي حرص على أن تشمل قوى وطنية مستقلة عديدة.
أما كوادر الحزب واصدقائه فحرثوا الأرض ميدانياً في كل مدينة وبلدة وقرية بما فيها النائية والمنسيّة، وكذلك في عموم المدارس والنوادي والأطر والمؤسسات الأهلية العربية وفي الجامعات أيضا، وفي أماكن عمل العمال وتواجد الموظفين. بلغ استعداد الناس أوجه واخدت الاجواء تعبق برائحة الإضراب.
تبع هذا أعلاه الاعلان بتاريخ 6.3.1976 عن قرار الإضراب في 30 آذار. وها انا أكشف ما لم يُكْشف في حينه، وهو أن قرار الإضراب كان قد اتخذه المكتب السياسي للحزب الشيوعي قبل السادس من آذار. وذلك في اجتماعه السري في بيت "سرّي" في حيفا. كان الحزب يخطط لهذا قبل شهور وأسابيع، وكانت تصله التقارير الصادقة من كل بلدات العرب عن استعداد وأجواء الناس.
حاولت السلطات الحكومية الاسرائيلية وقوى أمنها / مخابراتها / التخريب وإبطال قرار الاضراب. لكن الجماهير الحاضنة للإضراب قامت بمحاصرة مكان إجتماع رؤساء السلطات المحليّة العربية في شفاعمرو الذين أجتمعوا بتاريخ 25.3.1976 لاتخاذ قرار بإبطال الإضراب، وفجّرته. وأعلن الناس قرارهم:"الشعب قرّر الإضراب".
إضراب يوم الأرض 1976 دخل تاريخ ووجدان ووعي شعبنا كمفصل مركزي في تاريخنا ومحْوَر أساسي طوّر وعينا الإجتماعي، وكحدث غذّى وأغنى ذاكرتنا الوطنية ووجودنا ووحدتنا القومية الوطنية، وعمَّق اكتشافنا وتقييمنا لمقدرتنا وقوتنا في استلال المكاسب لصالحنا.
قد أكون أغرقتكم في تفاصيل إحياء الذكرى أعلاه. لم أقصد بهذا استنساخ الماضي الذي لا يجوز أصلا إستعادته في ظروفنا الحالية. كل ما قصدت أن نستنجه وقياداتنا التمثيلية والحزبية: أن الإضراب لن ينجح حتى لو أجمعت عليه القيادة، إن لم تنضج له الظروف الموضوعية والذاتية، وإن لم يقتنع الناس به وبجدواه لصالح قضاياهم، وإن لم يتم خلق أجواء عامة طاغية لضرورته، ولم تتوفر القوى الميدانيّة الراعية له.
ستضُرب غالبية شعبنا عن الإضراب يوم الأربعاء القادم. وسأواصل أنا دعوة حتى الأقلية التي لن تضرب الى عدم الاضراب، وذلك لما فيه صالح شعبنا وقضاياه وقياداتنا التمثيلية. لأني أريد لقياداتنا أن تُصْدَم من مدى رفض شعبنا لقراراتها الخاطئة، فتغيّر عندها نهجها ويكون إحياؤنا لذكرى يوم الارض في سنة 2017 القادمة وفق برنامج أجدى.
[email protected]