اعتدت ان اكتب حول موضوع الحريات المتاحة أمام المعلمين في جهاز التربية والتعليم في سياق النضال ضد المس الذي تقوم به السلطة بحرية التعبير لمعلمين عرب ويهود، وتحريض مجموعات يمينية متطرفة ضد معلمين طرحوا وجهات نظر داعمة لحقوق الشعب الفلسطيني وتجرأوا على ذكر النكبة او معارضة الاحتلال في دروسهم. ولكن قيام بلدية باقة الغربية بفصل المربي علي مواسي عن العمل لعرضه الفيلم الفلسطيني "عمر" بعد حملة تحريض عليه قام بها البعض وما اثارته هذه القضية من تفاعلات، تضطرني الى الكتابة عن الموضوع في سياق قمع الحريات داخل مجتمعنا العربي.
وقبل الخوض في السؤال المركزي الذي اود مناقشته الا وهو "أي مربين نريد؟"، لا بد من طرح السؤال: كيف يمكن ان يكون نضالنا ضد سياسات المؤسسة القامعة للحريات الديمقراطية المتعلقة بالأقلية الفلسطينية في البلاد، ومن اجل الديمقراطية الحقة صادقًا واخلاقيا عندما تقوم فئة داخل المجتمع العربي بقمع حريات اخرى لا تتفق معها بالرأي؟ كيف يمكن لفئة تعطي شرعية لفصل معلم من عمله لاجتهاد تربوي قام به، ان تعارض فصل معلمين او حتى اتخاذ خطوات اخرى ضدهم من قبل الدولة لتعبيرهم عن آرائهم واجتهاداتهم في قضايا متعلقة بهوية المواطنين العرب ومواقفهم من سياسات الدولة. والحقيقة التي يجب ان لا نتجاهلها اننا كثيرا ما نجد انفسنا امام هذا التناقض، نطالب بالحرية والمساواة وحقوق الانسان عندما نوجه مطالبنا المشروعة كمواطنين عرب للدولة، ولكن عندما نتحدث عن ذات الحقوق داخل مجتمعنا نبدأ بالتأتأة او حتى ان الموقف يتغير باتجاه اعطاء تبريرات للعنصرية والاقصاء وقمع بعض الحقوق والحريات لجزء من المجتمع العربي.
إن تعامل فئات كبيرة من المجتمع مع المعلمين كأداة لتمرير مواد وتلقين لنصوص يعني ضرب أي امكانية للاجتهاد واتباع تربية نقدية من قبل المعلمين تعزز لدى الطلاب روح نقد الوضع القائم والرغبة بتغييره للأفضل. تربية تشكك بمسلَّمات فرضتها القوى المهيمنة في المجتمع والدولة في صلبها ان الوضع القائم هو الوضع الطبيعي ولا يمكن حتى ان نتخيل اي بديل آخر للوضع القائم. تعوِّل السلطات كثيرًا على آليات الضبط الاجتماعي لقمع روح الاجتهاد لدى المعلمين بدل ممارستها المباشرة للقمع وملاحقة المعلمين المعارضين والنقديين. اجهزة الضبط الاجتماعي تضغط باتجاه ان "يمشي المعلم الحيط الحيط ويقول يا ربي السترة" دون حاجة لفرض حكم عسكري على المجتمع او استعمال طرق قمعية لا تتماشى مع الديمقراطية المتخيلة في المجتمع. فطالما يقوم المعلم بتلقين الطلاب النص المصادق عليه والذي يعبر غالبا عن مصلحة الفئة المهيمنة ويقوم بتحضير الطلاب كما يجب للامتحانات التي تعبر هي ايضًا عن فكرة المواطنة المهيمنة، فان وضعه جيد ويكون مرضيًا عنه. هذا النوع من التربية، وللأسف هو السائد في مجتمعنا، لا يصب في مصلحة أي اقلية تناضل من اجل نيل حقوقها ولها المصلحة العليا في تغيير المجتمع والدولة. قمة النجاح لاجهزة الضبط هذه تكون عندما يذوِّت المعلم توقعات الفئات المهيمنة ويصبح هو الرقيب لنفسه.
لا ادعي ان كل اجتهاد وكل خروج عن النص المقبول هو جيد ويصب في التغيير نحو الافضل، ولكن تشجيع المعلمين على الاجتهاد التربوي والخروج عن النص الرسمي المهيمن ونقده يساهم حتمًا في تشجيع التربية النقدية. هذه التربية تتطلب الجرأة لدى المعلمين في نقد المواد الرسمية وتعليم الطلاب على النظر الى المادة الرسمية بعيون ناقدة وكذلك على استعمال طرق تدريس ومواد ناقدة للواقع. مسألة الاجتهاد التربوي لا تتجزأ ولا تبنى على مقاسات هذه الفئة او تلك. واريد ان اذهب الى ابعد من ذلك فقد يصيب المعلم المجتهد وقد يخطئ احيانًا، ولذلك لا بد من الحوار البناء. فالتربية على النقد تكون ايضًا للنصوص والمواد الناقدة وغير الرسمية. لذلك ففكرة الاجتهاد التربوي والتربية النقدية تحتاج الى فضاء آمن بل وداعم للمربين وتحتاج الى تذويت فكرة التعددية في المجتمع.
التربية النقدية والاجتهاد والابداع التربوي هي حاجة ماسة وضرورية بالذات في حالتنا كأقلية قومية مضطهدة تناضل من اجل حقوقها في بلادها. فهي الامل الوحيد لنا لمجابهة المناهج التعليمية التي تسعى لضرب هويتنا وتربية اجيال جديدة تقبل المواطنة المنقوصة للعرب في البلاد. جزء من ادوات النضال التي يجب تطويرها في حالتنا هي النضال التربوي. هذا النضال يتطلب ان نقوم ببناء معلمين مسيَّسين وواعين لهويتهم ولدورهم كمربين في بناء اجيال جديدة مسيَّسة. فكل تشجيع ودعم لتوجهات نقدية واجتهاد تربوي في التعليم يصب على الاغلب في مصلحة نضالنا كاقلية قومية.
من هنا فان فصل علي مواسي هو ضربة موجعة لكل من يعمل من اجل تعزيز التربية النقدية والديمقراطية في المجتمع والتي تعتبر ركيزة التربية الرافضة للتدجين السلطوي. هذه الخطوة تصب في نهاية الامر في خدمة القوى المهيمنة في الدولة والتربية المدجنة التي تريد. قد تعيد المحكمة علي الى العمل ولكن الضرر الجماهيري الذي يمس بشرعية الاجتهاد قد حدث. لذلك يجب رفض ما قامت به بلدية باقة الغربية ورفض التحريض ضد أي معلم بسبب "اجتهاده". لاننا نريد مربين يبنون جيلا جديدا ناقدا مسلحا بالامل، قادرا على التغيير نحو الافضل.
[email protected]