رحل عنا كثيف رفيقنا وأخينا وأحد أبرز الشخصيات الفلسطينية في عصرنا, القائد , الأديب , الروائي, الكاتب , المسرحي, الفنان, الممثل, المناضل, المقاوم, الفيلسوف, الاعلامي, المقاوم, الوطني, القروي, المتواضع, الأب الحنون, الزوج المخلص الصدوق, الشيوعي, الجبهوي ,الأممي والانسان الانسان ابو اياس سلمان ناطور, ليبقى لنا لطيفه وطيفه العابقان بأشذى وأعطر وأزكى وأطيب الذكريات والذاكرة والسيرة الغنية الوافرة, اذ يصح فيه قول الشاعر:
ما الفخرُ إلا لأهل العِلمِ إنهم على الهدى لمن استهدى أدِلاّءُ
وَقَدْرُ كلُ امرئٍ ما كان يُحْسِنُه والجاهلونَ لأهل العلم أعداءُ
ففُزْ بعلمٍ تَعِشْ حيّاً به أبداً الناسُ موْتى وأهلُ العِلْمِ أحياءُ
يكفي هذا القيادي الخارق, الراحل الباقي الحي, العالم بشتى الفنون والمُميز, أنه نجح أن يحمل كل هذه الألقاب وأن يتحلى بهذه الصفات وأن يجيد ما تحتاجه هذه العلوم والمواضيع من معرفة وادراك وارادة واقدام وإتقان ومهارات وتضحيات جسام, وان يؤدي هذه المهمات العالية المسؤولية والعطاء, بجدارة , ومنحها مما عنده كل استحقاق تتطلبه, بدون أن ينقِّص منها أو من مستواها الرفيع أو من مضمونها, المُركّب والمخلوط, ليحولها جميعها الى أبهى واحلى وأطيب وافيد الخلطات, الأدبية ( الشيخ مشقق الوجه), والفلسفية (ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة .. ستأكلنا الضباع), والتوثيقية الحقيقية والواقعية ( وما نسينا), لما كان عنده من قدرات هائلة ومستوى رفيع مشهود له وبه وعالي , ولما كان عنده من ارادة عظيمة وعمل جبار وغير عادي, مما يذكرنا بقول بوبي نايت :" ان مجرد النطق بكلمة ارادة يشحن المرء بقوة غير عادية" .. فما بالك بقوة الشحن التي حوتها ارادة ابو اياس.
أنتج راحلنا الغالي والعالي أكثر من 30 كتاب ومسرحية, والاف المقالات والمعالجات المختلفة, عالج فيها الكثير الكثير من قضايا شعبنا الفلسطيني, مسترشدا بالفكر الماركسي اللينيني وغيره من الإرث الحضاري, العالمي والعربي, خاصة الطبقي الأممي والوطني والانساني منه ومستندا لمعطياته هو , مما يضعه في مقدمة ومن خيرة أدباءنا العرب عامة والفلسطينيين منهم خاصة, ومن خيرة أدباء العالم, الأمر الذي انعكس في عدد الترجمات الهائلة لكتاباته, ومئات أو آلاف اللقاءات أو الندوات والمهرجانات والعروض التي دُعي اليها, والتي شارك فيها أو قرأ عنها ملايين الناس.
نحن رفاقه في لجنة المبادرة العربية الدرزية والذين كنا في اتصال دائم معه, وكان لنا الشرف أنه من أبرز قياديي لجنتنا , الرافضة للتجنيد الإجباري المفروض على شبابنا العرب الدروز , نعتبر رحيله المفاجئ والقاسي خسارة فادحة لنا, لا يمكن تعويضها إلا بزيادة المجهود المطلوب , على المستوى العام والفئوي والخاص, لإعطاء هذه الشخصية الفذة وهذا الشخص الكريم كل ما مطلوب من واجب المحافظة على ما أعطاه , الأمر الذي يشكل خدمة جليلة لشعبنا الفلسطيني, شعب الجبارين , الرازح والنازح منه, ولما لهذا العطاء والسخاء من قيمة مادية ومعنوية , اذ علينا جميعاً وكشعب موحد متزن, أن نحوِّل كل هذا الارث الى رافعة لواجب تكريم ابو اياس, ولتقوية ما كان يهدف له, أولا وقبل كل شيء من جمع كلمة شعبنا حول قضاياه ومصالحه وحقوقه , وفي صلب ذلك كنس الاحتلال الاسرائيلي المجرم, واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف, الأمر الذي يتيح لنا هنا كأقلية عربية أن نحصل على كامل حقوقنا, ويتيح لنا الفرصة للمحافظة على ما تبقى لنا من أرض, لا بل أن نباشر في المعركة المطلوبة في سبيل ارجاع ما صودر منها.
الكثيرون من الشرفاء والمفكرون والمسؤولون رثوا وكتبوا عن هذا العملاق الديلاوي الأصيل, وهذا بحد ذاته واجب انساني ووطني, وتأتي تأديتنا نحن لهذا الواجب ليس من باب المجاملة أو رُكب الموجة, وإنما لإعطاء هذا العبقري المعطاء الكبير حقه من تسجيل ولو لبعض التفاصيل الخاصة من سيرته وصيرورته الغنيتان, ومن ثم ليعرف القاصي والداني أننا نشهد شهادة شاهد من أهله, الأمر الذي يعطي الأجيال , خاصة الفلسطينية .. والدرزية منها, حقيقة فقيدنا ابو اياس, وحقائق هامة عنه, تقدير واقعي وحقيقي عن قيمته الثمينة والنادرة , وعن قامته الشامخة والعالية والنقية الصافية نقاء عيون بلده دالية الكرمل, لتحويل ذلك كله الى بوصلة لتصويب سلوكنا وتعاطينا مع ما يجمعنا ويخدم مصالحنا ويسهل تحصيل حقوقنا.
على المستوى الشخصي أذكر له لقاءنا في قرية عسفيا في أواسط السبعينات من القرن الماضي , عندما وجهت له في حينه نوع من الانتقاد كونه انضم للحزب الشيوعي , حينها قال لي بتبسيطه المعهود للمُعقد من الأمور: " يكفيني أني بعد انضمامي لهذا الحزب أني عندما القح رأسي على المخدة وأنام يكون ضميري مرتاح", الأمر الذي عكر صفوة قناعاتي في حينه, وجعلني أقوم بتقليب هذه المقولة الخارقة في عقلي ووجداني على مدى سنوات, وبعد التجربة وزيادة الوعي , لأصل لنفس النتيجة التي أوصلت هذا الرفيق لهذا الحزب المناضل, لتحصيل الحقوق والعدالة, حدث ذلك في عام 1983, ولأنضم لهذه القافلة النضالية, والتي اضطر ابو اياس الى الابتعاد عنها لفترة وجيزة, بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية, وليس صدفة أن اختارني أبواياس أن أكون عنواناً لتسهيل أمر عودته المباركة لهذا الاطار الشريف..., بالنسبة لي هذا التفصيل أعتبره شهادة شرف لي ولحزبنا .
سلمان ناطور , كثيفه لطيف ولطيفه كثيف وأقوى من النسيان, وليبقى خالدا وعنوانا لذاكرتنا الجماعية ومزروع فيها, بكثيفه ولطيفه.. لا بل ليبقى الناطور لها ..ليبقى الناطور اسماً وفعلا.
[email protected]