يداهمنا اليوم، اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء، بينما لم تجف لدينا دماء ثلاث نساء عربيات، قتلن هذا الشهر وحده بدم بارد وببشاعة تقشعر لها الأبدان، ليرتفع بهذا منسوب ضحايا العنف ضد النساء في مجتمعنا العربي، منذ مطلع العام الجاري إلى 11 ضحية، وهن لسن أرقاما مجردة، إنما لكل منهن حياتها وظروفها المختلفة، لكل منهن طموحاتها وآمالها التي انقطعت بسهولة لا تحتمل.. لكل منهن عائلة فتتت، أطفال يتموا وأمهات ثكالى.. هنّ لسن أرقاما مجردة، لكنهن، موجعات حتى إن لم نعرف منهن إلا أعدادهنّ: ما الذي يجعل مجتمعنا بهذه القسوة، ما الذي يجعل أقلية قومية تشكل بالكاد خُمس المواطنين في إسرائيل، تقدم كل عام نصف ضحايا العنف في البلاد؟ لماذا، قتلت هذا العام 11 امرأة عربية، من بين 22 امرأة عربية ويهودية في البلاد؟
هذه الأسئلة موجعة ومركبة في آن، والبحث عن إجابة واحدة مبسطة لها، مآلها الفشل، ومن هنا، علينا ألا نغفل أي جانب من جوانب العلاج، وألا "نقدم التنازلات" لأي جهة كانت، لأن هذه هي الطريق الوحيدة، نحو ما نحتاجه فعلا، وهو بناء استراتيجية شمولية وطنية على مستوى الجماهير العربية في البلاد لاستئصال العنف بحق المرأة، وقد أردت من خلال هذا المقال أن ألفت النظر إلى عدد من القضايا التي قد يساهم الانتباه إليها ببدء البلورة لهذه الخطة:
• جرأة المجتمع بتحدي القاتل: "لا شرف في جرائم الشرف"
ثلاثة أسباب برأيي تجعل العنف ضد المرأة، من أبشع أشكال العنف: أولا، بأن من يرتكب الجريمة، يكون في العادة من أقرباء الضحية من الدرجة الأولى، وغالبا إما زوجها أو شقيقها، وفي بعض الأحيان ربما ابنها. ثانيا، بأن المؤشرات إلى وشوك ارتكاب هذه الجريمة تكون بشكل عام شاخصة واضحة لا لبس فيها، ومع ذلك تقع الضحية مضرجة بدمائها، بعدما لم يكلف أحد من أقربائها أو الشرطة نفسه بذل كل ما هو مطلوب لمساعدتها، رغم نواقيس الخطر، والثالثة، أن المجرم، غالبا ما يحظى من أقربائه –أقرباء الضحية!- بالتبرير الخجول في أفضل الحالات وبالتهليل لبطولته في أسوأها!
وهذا كله غير مفاجئ في مجتمع ذكوري تقليدي كمجتمعنا الذي نعيش فيه، ومع ذلك، فإننا نرى في السنوات الأخيرة جرأة بتصاعد التحركات المضادة لهذا العنف والتي تصرخ بالقاتل ومن يدعمه بأنه لا شرف في هذه الجرائم التي ترتكب بحجة ما يسمى "الدفاع عن شرف العائلة"!
إن هذا التحرك لا يأتي تلقائيا، وعلينا أن نتوجه بشكل مباشر إلى الجهات المؤثرة على الرأي العام لتقوم بدورها بتحريض الناس على هذا العنف وجعلهم يخرجون إلى الشوارع ويرفعون صوتهم: بدءا بمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، ومرورا برجال الدين من كافة الطوائف ووصولا إلى الإعلام بكافة وسائله وكذلك جهاز التربية والتعليم، الذي بوسعه أن يؤدي دورا هاما بشكل استثنائي.
• جعل الدولة تقوم بواجبها!
تدعي الدولة بأنها عاجزة عن معالجة العنف ضد المرأة العربية بحجة أنه متجذر ونابع من العادات والتقاليد ولا مفر منه! هذا وهمٌ وكذب. الدولة بمؤسساتها المختلفة، قادرة على علاج هذه القضية، من خلال العمل في ثلاثة محاور أساسية:
- القاتل كمجرم وضحية في آن: القتلة –بلا أي تحفظ- هم مجرمون ويجب إنزال أقسى العقوبات عليهم وفقا للقانون، ليكونوا بذلك، عبرة لكل من يجرؤ على التفكير بالاقتداء بهم. لكن الأمر يتجاوز القضية الشخصية لهذا لقاتل العيني أو ذاك، وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها، كون القاتل يكون بشكل عام، ضحية للقمع السلطوي المتواصل، وقسوة ظروف معيشته الاقتصادية والاجتماعية، ولتحويل الاحتلال للدم المسفوك إلى جزء من المشهد اليومي "الطبيعي". على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها، قبل ارتكاب الجريمة بشوط طويل، لمنع الشاب من بدء الانحراف عن مسار حياته الطبيعي.
- المرأة كضحية مرتين: المرأة العربية المعنفة ضحية مرتين، أولا، لأنها تقع ضحية للعنف المباشر، وثانيا، لأنها تواجه مصيرها هذا وحدها، في كثير من الأحيان. فمثلا، في طول البلاد وعرضها، هنالك ملجآن اثنان فقط للنساء المعنفات العربيات من بين 14 ملجأ.
والتمييز بالميزانيات والنسب المئوية صارخ، لكنه لا يكشف الصورة الكاملة، بكل تعقيداتها، إذ أن رصد الميزانيات الكاملة، لن يكفي بالضرورة، إنما هنالك حاجة إلى ملاءمة الخدمات للمرأة العربية التي تواجه خطر القتل في مجتمع تقليدي ومحافظ، وهذه الملاءمة غير واردة تقريبا في البلاد.
لكن، هنا أيضا، يصح أن نكرر ما قلناه أعلاه بخصوص واجب الدولة بتحمل مسؤوليتها قبل ارتكاب الجريمة بمشوار طويل. الدولة تستطيع أن تساهم بمنع جعل المرأة رهينة سهلة المنال بهذا الشكل وذلك من خلال تدعيمها الاقتصادي، فالمرأة العاملة والمنتجة، تكون مستقلة اقتصاديا وبالتالي أقدر على تدبر أمورها، ومن هنا فإن العلاقة واضحة بين وقوع الجرائم والواقع الاقتصادي، والنقص الحاد بأماكن العمل أو المواصلات العامة التي تمنح قد المرأة فرصة الخروج إلى العمل والانعتاق من تبعيتها للرجل.
- المجتمع كأداة للنبذ والاحتضان: على مؤسسات الدولة، أن تهتم بجعل المجتمع يؤدي دورا هاما بنبذ المجرمين القتلة واحتضان الضحية، لئلا تلفظ أنفاسها الأخيرة، وهذا يتطلب حملات توعوية واسعة النطاق وذات استمرارية طويلة الأمد. ذكرنا في بداية المقال، أن هذا أيضا من مسؤولية الجهات الفاعلة في المتجمع العربي ذاته، وهذا صحيح، لكن المسؤولية الأكبر تبقى على الدولة، فهي الأقوى من ناحية النفوذ والصلاحيات والموارد.
عود على بدء: نقلع شوكنا بأيدينا
أعيد قراءة ما كتبته حول واجبات الدولة للحد من ظاهرة العنف بحق النساء، فينتابني للوهلة الأولى شعور بالذنب جراء التعويل على سلطة تمارس التمييز ضدنا ولا تخجل بين الحين والآخر من التلذذ بمآسينا، وهذه حقيقة تجعلنا نعود ونؤكد أن شوكنا لا تقتلعه إلا أيدينا والدولة لن تبدأ بمعالجة هذه القضية كما يجب، إلا إن شكّلنا نحن، بجماهيرنا الغاضبة، ضغوطنا عليها، على كافة الأصعدة وبرأسها النضال الميداني العنيد.
- الكاتبة هي المديرة العامة المشاركة لجمعية سيكوي، لدعم المساواة المدنية في البلاد.
[email protected]